محمد أبوالفضل يكتب:

رياح التغيير تقترب من جنوب السودان

لم يُنه انفصال جنوب السودان علاقته تماما بالشمال، ولا تزال عملية التأثير المتبادل تتجاوز الأبعاد الأمنية والاقتصادية، ومن الممكن أن تصل إلى مكوّنات سياسية، فبعد حوالي شهر من عزل الرئيس عمر حسن البشير، تصاعدت حدّة المطالب بعزل الرئيس سلفا كير ميارديت.

تتعامل حكومة جوبا باهتمام بالغ مع الدعوة التي وجّهتها حركة “البطاقات الحمراء” للتظاهر يوم 16 مايو الجاري، ويخشى المسؤولون أن تنتقل عدوى الانتفاضة في السودان إليهم. وكعادة الكثير من الدول تعاملت أجهزة الأمن بقسوة مع النشطاء السياسيين، وأوقعت في صفوفهم عددا من القتلى الأيام الماضية، الأمر الذي منح دعوة الاحتجاج زخما سيجعلها صرخة في وجه سياسات الرئيس سلفا كير.

أدت المعلومات التي كشف عنها خبراء في الأمم المتحدة إلى إحراج سلفا كير، حيث أكدت تورط أكور كور كوك، مدير جهاز الأمن الداخلي، في مقتل ناشطين في جوبا مؤخرا، وحملت إدانة ضمنية للرئيس نفسه، ما جعله يلجأ إلى وضع كوك قيد الإقامة الجبرية، في محاولة لامتصاص الغضب المتصاعد، وعدم منح التظاهرات المنتظرة مبررات قوية للخروج.

يصمم قطاع كبير من الشباب الذين لم يتورطوا في المعارك على إيجاد وسيلة للتخلص من الميراث الثقيل للحروب السياسية، التي أفضت إلى إصابة جنوب السودان بالشلل ووضعته ضمن الدول الفاشلة، وربما تكون الاحتجاجات السلمية مدخلا مناسبا لتغيير وجه البلاد، وحض القوى المتصارعة على وقف الخلافات قبل أن يجرفهم جميعا الطوفان.

تحاول حركة "البطاقات الحمراء" تخطّي عملية توجيه إنذار بالطرد للقوى السياسية في الحكومة والمعارضة، التي قادت البلاد إلى هذا المأزق، والتوجّه نحو الطرد مباشرة

تتعامل جويا مع الدعوة بحذر، وتخشى من سيناريو مماثل لما حدث في الخرطوم، ولذلك انتشرت قوات الجيش والشرطة في المناطق الحيوية، لتوحي أن الأمن يفرض قبضته ولن يسمح بالتظاهر في الشوارع، ويجب قطع الطريق على المواطنين الذين ضجوا من استمرار النزاع بين سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار بصورة كبّدت الدولة خسائر باهظة على مدار نحو ست سنوات من الاقتتال.

أخفقت الوساطة الإقليمية عبر الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) في وضع حدّ نهائي للخلاف بينهما، وفشلت جهود تنفيذ اتفاق أديس أبابا للسلام الموقع في سبتمبر الماضي، واضطرت لجنة الوساطة، بعد اجتماعات عقدت يومي 2 و3 مايو، إلى تمديد تشكيل الحكومة الانتقالية ستة أشهر، لأن الموعد الذي جرى التوافق عليه (12 مايو الحالي) لم يعد مناسبا لتنزيل اتفاق السلام على الأرض.

أفضى تعنّت الطرفين في حلّ كثير من القضايا إلى ازدياد الهوة بينهما، ووضع تحديات أمام المجتمع الدولي الذي لم يقم بدوره على أكمل وجه، فكل التحذيرات التي وجهت لمعاقبة الطرف الذي يعوق السلام لم تجد آذانا صاغية، ولم يتم التعامل بصرامة مع من أدت تصرفاتهم إلى انسداد الأزمة، وجرى فتح الباب لتأجيل الحل أملا في واقع تتغير فيه معادلة الضغوط التي تمارسها بعض القوى بعد أن شعرت بمغبة التقاعس في جنوب السودان.

اقترح سلفا كير تمديد تشكيل الحكومة لمدة عام، كي يتمكّن مع شريكه مشار من تقريب المسافات السياسية، وتسوية المشكلات العسكرية التي لا تزال الكثير من مكوناتها عالقة، لكن الاقتراح لم يجد استجابة كبيرة، واعتبره البعض نوعا جديدا للهروب من التزامات السلام، وإصرارا على عدم التخلّي عن أي جزء من كعكة السلطة والثروة.

كشف التفكير في تمديد طويل عن فشل متوقع لمحاولات استعادة الأمن من خلال المفاوضات، ومنح فريق مشار فرصة لتحميل سلفا كير، شخصيا، مسؤولية التعثر الحاصل في الانتهاء من تسوية المشكلات، وإقناع القوى الإقليمية التي تدخلت أن هناك تعنّتا ملحوظا من قبل الرئيس، وقد يكسب مشار تعاطف دوائر روحية، ممثلة في بابا الفاتيكان، الذي عقد لقاء رمزيا بينهما في مقر الفاتيكان الشهر الماضي، خرج منه الطرفان مطأطئي الرأس من دون نتيجة ملموسة.

حملت بيانات الدعوة إلى التظاهر رسائل عديدة، بدءا من التوقيت وحتى الشعار الرئيسي. فقد تم اختيار 16 مايو، وهو موعد ذكرى تأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1983، كدلالة على انحراف سلفا كير عن ثوابت ومشروع الحركة السياسي الذي وضع قواعده الراحل جون قرنق، ورفع عبارة “كبرى واقا” أو “تسقط بس” كإشارة توحي بالمضيّ على طريق السودان، الذي رفع هذا الشعار ونجح في عزل البشير.

انفصل الجنوب منذ 8 أعوام، ولا تزل الكثير من القواسم المشتركة مستمرة مع الشمال، ما جعل الدعوة إلى التظاهر جذّابة في الوقت الراهن، حيث يواصل الشعب السوداني في الشمال صموده في مكان الاعتصام أمام وزارة الدفاع، ويرفض المناورات التي تقلّل من قدرته على تحقيق أهدافه كاملة في تشكيل حكومة مدنية والتعامل بحسم مع فلول نظام البشير.

يعدّ النجاح في امتحان الإرادة بالخرطوم حافزا كبيرا للمواطنين في جوبا، ويدفعهم أيضا إلى التصميم على بلوغ الأهداف، فقد دخلت الدولة دوامة طويلة من العنف، أدّت إلى مصرع وتهجير مئات الآلاف من الأشخاص، وفقدان الثقة في الأطياف السياسية.

تحاول حركة “البطاقات الحمراء” تخطّي عملية توجيه إنذار بالطرد للقوى السياسية في الحكومة والمعارضة، التي قادت البلاد إلى هذا المأزق، والتوجّه نحو الطرد مباشرة، لأن الكروت الخضراء غير مجدية، ومن الواجب خروج الجهات المتسببة في الصراعات الحالية من الملعب، وطيّ صفحتها من خلال طبقة شبابية قادرة على مواجهة التحديات.

تتعامل جويا مع الدعوة بحذر، وتخشى من سيناريو مماثل لما حدث في الخرطوم، ولذلك انتشرت قوات الجيش والشرطة في المناطق الحيوية، لتوحي أن الأمن يفرض قبضته ولن يسمح بالتظاهر في الشوارع

يتصوّر البعض أن جنوب السودان مهيأ لتحولات سلمية يقوم بها الشارع والقوى السياسية والاجتماعية الحية فيه، ويعتقد آخرون أن دولا كثيرة في أفريقيا يمكن أن تصاب بعدوى التظاهرات بعد كسر حواجز الخوف وتخطي محرمات سياسية ظلت جاثمة لفترة طويلة على صدور الشعوب في جنوب القارة السمراء.

لكن المسألة في جنوب السودان متشابكة، بحكم حداثة الدولة وتجذّر المعاني والمضامين القبلية، وانخراط الكثير من الأطراف في النزاعات، وعدم وجود شخصية محدّدة تقود الحراك، فغالبية القيادات شاركت في الصراع خلال الفترة الماضية، الأمر الذي يفتح المجال للتظاهرات العفوية، رفضا للواقع الاقتصادي والاجتماعي الأليم.

وهي السمة التي ميّزت احتجاجات عديدة في العالم، بينها السودان، فقد تراجعت القوى التاريخية وأخذت تجمّعات مهنية وشريحة كبيرة من المهمّشين تحلّ مكانها، ما يمنح الحراك في جنوب السودان فرصة للنجاح، حيث اختبرت غالبية الأطراف وفشلت في احتواء الصراعات وتطبيق اتفاق السلام.

مثّل نجاح نموذج الاحتجاج في السودان نقلة نوعية مهمة، فبعد ثلاثة عقود من الحكم تمكّن المواطنون من عزل الرئيس عمر البشير، ما يقدّم للشعب في جنوب السودان، وربما غيره، دفقة معنوية تساعده على البحث عن حلّ للأزمات المستعصية في هياكل الحكم التي أنهت مبكرا رهانات إيجابية لتكوين دولة واعدة في شرق أفريقيا.

ربما تواجه حركة “البطاقات الحمراء” صعوبات لنجاح تظاهرة الخميس المقبل، لكن سوف يحسب لها رفع صوتها عاليا بشكل يجعلها تعيد تكرار المحاولة، فقد سئم الناس المراوغات، وأصبحت كثافة الأخطاء والتجاوزات وفقدان الأمل من الحوافز المهمة لوقف حالة الصمت التي خيّمت على شريحة كبيرة من المواطنين.