ماهر فرغلي يكتب:
ولاية تركيا.. واستحضار الحليف الموضوعي
يظهر البغدادي وفي يده (ملف ولاية تركيا)، وعلى الفور تستحضر الدولة التركية داعش، وتبدأ دورة الأخبار المزخرفّة بالوهمِ حول الإرهاب المحتمل، ويعاود التنظيم الظهور عملياتيًّا، فيعطي ذريعة لها أكبر للعمل بحرية على شريط حدودي من الأرض السورية، في نفس الوقت الذي يكمل فيه أردوغان خطة التضليل، فيعرض على ترامب حلًّا لمشكلة مسلحي «داعش» الأوروبيين، ويُعرب له عن قلقه من هروب هؤلاء من قبضة قوات سوريا الديمقراطية، رغم أن من يتابع العمليات الإرهابية الكبرى للتنظيم في أوروبا وآسيا، سيكتشف أن معظم المهاجمين والانتحاريين قد قضوا بعض الوقت في (ولاية) تركيا!.
تركيا والحليف الموضوعي
تركيا كانت حليفًا موضوعيًّا لداعش، ومر ذلك بعدد من المراحل، بدأت برفض أنقرة التعاون مع التحالف الدولي بذريعة أن ضرب التنظيم سيكون في صالح النظام السوري، الذي كانت تركيا تجاهر بالرغبة في إسقاطه.
وبينما كان تنظيم داعش يحاصر بلدة كوباني الكردية المحاذية للحدود التركية عام 2014، كان الجيش التركي يفضل المشاهدة، فيما ترتفع أعمدة الدخان جراء التفجيرات والاشتباكات.
وتمكنت قوات حماية الشعب الكردية من فكِّ الحصار، وهزيمة التنظيم في كوباني في يناير 2015، ليمثل ذلك نقطة تحول في الحرب ضد التنظيم المتشدد.
هنا تجدر الإشارة إلى أن تركيا بدأت في مرحلة لاحقة تكثف الجهود في نقل العناصر المستقطبة إلى معسكرات التنظيم، وهنا لفتت أجهزة المخابرات الغربية وتسريبات وسائل الإعلام الانتباه إلى هذا الدور الكبير في دعم تنظيم «داعش»، وفتح الممرات الحدودية لعناصره القادمين من أوروبا وآسيا الوسطى ودول عربية، وكان الشأن الكردي دافعًا كبيرًا لأنقرة فيما تفعل، فهو في الوعي لديها يتقدم على أي شأن آخر.
من أجل هذا بدا «داعش» حليفًا «موضوعيًّا»، ورأينا تلك الصورة التي بدا فيها رجل الأمن في مطار اسطنبول وهو يبتسم لعناصر من التنظيم حين كان يختم لهم جوازات السفر!، كما رأينا تلك العربات التي تنقل النفط الذي اشترته أنقرة بثمن بخس من التنظيم، وصورة صهر أردوغان بيرات البيرق مع عناصر داعش كانت هي الفيصل بتلك العلاقة.
في المرحلة الأخيرة نجحت قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي في دحر «داعش»، وتحرير ما اعتبرها التنظيم عاصمته في الرقة عام 2017، وهنا شنَّت وسائل إعلام تركية حكومية حملة تشكيك واسعة، وصورت وسائل الإعلام ذلك على أنه ناجم عن اتفاق بين التحالف وداعش.
وفي ديسمبر 2017، حذر الرئيس التركي من أن مقاتلي التنظيم سينتقلون إلى سيناء في مصر، ويتسللون إلى دول أوروبية، وذلك بعد نحو شهرين من تسجيل صوتي لزعيم «داعش» أبوبكر البغدادي، أشار فيه إلى أن مرحلة السيطرة على المدن انتهت بالنسبة للتنظيم، داعيًا أتباعه إلى شنِّ هجمات بالسكاكين والسيارات المفخخة، وكان من الواضح أن هذا التحذير هو تهديد لمصر وأوربا، وأيضًا جاء بعدما رسّخت تركيا وجودًا عسكريًّا لها شمالي إدلب، وفي عفرين، وعدد من البلدات الكردية المحاذية لحدودها.
أردوغان يغطي على الجريمة
في المرحلة الأخيرة كان الظهور الأخير للبغدادي وإشارته حول ما يُسمى (ولاية تركيا)، وانطلقت تصريحات الحكومة التركية في مهاجمة التنظيم، وهي التي لم تأتِ من قبل على ذكر الإرهاب الداعشي، لكنها كانت تتحفنا كل يوم بأحاديث تنظيم فتح الله جولن وانقلابه، وهي التهمة التي استغلها أردوغان في تصفية خصومه، وملء المعتقلات والسجون بهم.
بحسب صحيفة «حرييت» التركية، ألقت قوات الأمن التركية في أنقرة القبض على 17 عراقيًّا وخمسة سوريين؛ بتهمة الانتماء إلى «تنظيم الدولة»، والعمل على تجنيد عناصر جدد لحساب التنظيم.
ذكرت الصحيفة أن مديرية أمن ولاية أنقرة بدأت مؤخرًا بالتحري حول عدة أشخاص تسللوا إلى تركيا بشكلٍ غير مشروع، ويشتبه بمشاركتهم في أنشطة «تنظيم الدولة» في كلٍّ من سوريا والعراق.
كل الأخبار السابقة كانت محاولات لدفع التهمة أو التغطية على جريمة دولية لا يمكن لأي إنسان أن يغفرها، وهي تمرير التنظيم، وخلق الملاذ الآمن لقادته، بعد أن فروا من ساحات المعارك في سوريا، وفق تحقيق نشره موقع باز فيد.
قال التحقيق إن الأخبار الواردة من سوريا تزعم مقتل آلاف العناصر الإرهابية، لكن حقيقة الأمر تظهر أن معظم هؤلاء ينتقلون إلى تركيا؛ حيث يجدون مقرًّا آمنًا؛ استعدادًا للعودة إلى القتال أو نشر أفكار التنظيم في أوروبا وفي مناطق أخرى حول العالم.
ويكشف أن بعض شبكات التهريب يجري إدارتها من مناطق مختلفة في تركيا؛ كإسطنبول، وبأن هذه الشبكات تقوم بتهريب بعض الأشخاص لاحقًا إلى أوروبا عبر البر أو البحر، عبر عمليات معقدة تجري داخل الأراضي التركية.
كما نشرت صحيفة واشنطن بوست مقالاً، تحدثت فيه عن دور تركيا في تهريب مقاتلي القاعدة وداعش وتدريبهم، وحددت ثلاثة مواقع تحتوي على معسكرات التدريب والتجنيد للجهاديين في تركيا: الأول في مدينة كرمان التي تقع وسط الأناضول قرب إسطنبول، والثاني في مدينة أوزمانيا الاستراتيجية قرب القاعدة العسكرية التركية - الأمريكية المشتركة في عدنان، بينما يقع الثالث في مدينة سان ليلورفا أورفا في جنوب غرب تركيا.
من هنا كان صمت داعش وعدم ارتكابه لعمليات إرهابية سوى اثنتين جاءتا بطريقة فردية ثمرة للتعاون والعلاقات المنفعية بين الأتراك والدواعش.
وفي خلاصة من بحث لهيثم مزاحم في كتاب «داعش: الأفكار التموين الإخوان» الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث، فإن أنقرة احتفظت بخط تواصل مع بعض قيادات التنظيم بعد صفقة إفراج التنظيم الإرهابي عن مسؤولي القنصلية التركية في الموصل، وفي عز انتصارات التنظيم دخل وفد تركي في 21-22 فبراير 2015 لزيارة ضريح سليمان شاه، تحت حماية قادة داعش، الذين كانوا يتبادلون المشورة مع أعضاء من حزب العدالة والتنمية، وهذا ما أكده نائب رئيس الوزراء التركي بولند أرينج بطريقة غير مباشرة، عندما قال «إننا كنا على علم بما يُحضّر للموصل»، متحدثًا عن عمليات ابتزاز داعش للحكومة، إذ طلب هذا التنظيم فدية قدرها خمسة ملايين دولار مقابل الإفراج عن 31 من سائقي الشاحنات التركية الذين تم احتجازهم في محافظة نينوى، عدا رهائن القنصلية، وقادت المفاوضات التركية مع داعش إلى إفراج أنقرة عن القيادي البارز في داعش شندريم رمضاني، وهو شيشاني يحمل جواز سفر سويسريًّا، اعتقل سابقًا بعد اشتباكات دارت بينه وبين القوات التركية في مدينة أضنة التركية بُعيد عودته من الأراضي السورية، قتل فيها رمضاني ثلاثة رجال أمن أتراك.
«ولاية تركيا» والصراع على الجهادية
إلى هنا استمرت الأمور كالمعتاد لكن لما حققت تركيا أهدافها بشمال سوريا من خلال مشروع «المنطقة العازلة» لتكون مهمتها التقدم من شمال ولاية «حلب» مع الضفة الغربية الشامية لـ«نهر الفرات» بموازاة تقدم محور قوات سوريا الديمقراطية على الضفة الشرقية للنهر، وإنشاء قوتين عسكريتين تحت مسمى «درع الفرات» و«غضب الفرات»، ثم مناورتها للأمريكان، والعرض عليهم انتقال قادة التنظيم المسجونين إلى الشريط الذي سيطرت عليه، حينها بدأ البغدادي يشعر بالخطر، فوصّف تركيا في حديث مسجل في كونها «خاسئة خانسة تطل بقرن وتستخفي بقرن، تسعى لتحقيق مصالحها وأطماعها في شمال العراق وأطراف الشام ثم ترتد خشية أن يصلها المجاهدون في عقر دارها بجحيم عملياتهم ولهيب معركتهم»، وقال: «فكّرت وقدّرت ونظرت (أي الدولة التركية) ثم عبست وبسرت واستكبرت، ودخلت في حربنا كما تدخل الضباع المبتورة مستندة مستظلة بطائرات تحالف الصليب مستغلة انشغال المجاهدين».
على الفور كانت الدعوة لغزو تركيا من قبل أبي الحسن المهاجر المتحدث الإعلامي: «وجعل أمنها فزعًا ورخاءها هلعًا وإدراجها في مناطق صراع التنظيم الملتهب».
يقول مصطفى زهران، الباحث بمركز ستا بالقاهرة، في حديث خاص لـ(حفريات): بحسب التنظيم أيضًا، فإن الأتراك سعوا إلى المساومة مع الروس والتفاوض معهم، خاصة بعد أن وعي النظام التركي أهمية هذه المنطقة مستقبلاً، خاصة أن لهذه المنطقة ميزات أخرى منها سحب المهاجرين السوريين من الداخل ووضعهم داخلها، ثم تجنيدهم ضمن صفوف الجيش التركي للعب دورٍ بارزٍ في الداخل السوري، وبالتالي رأى تنظيم الدولة أن الخطر الأكبر عليه قد يكمن في الدور الجديد الذي تقوده الدولة التركية في الإقليم، خاصة داخل الدائرة المذهبية السنية، كحاضنة مقابلة للدور الذي يلعبه هو، وهذا ما يعني أن هناك دورًا تركيًّا تنافسيًّا وصراعًا حول قيادة العالم السني مع تنظيم الدولة؛ ما دفع التنظيم إلى استنفار طاقاته، والإعلان عما يسمى (ولاية تركيا).
ما بين الدعم والتمرير وملف البغدادي يحدث الجدل، لكن العملية التتابعية للعلاقات والسياسات التي جرت تنير الطاقات المظلمة، وتكشف لنا المستور، وهو أن داعش وتركيا كل منهما مفيد للآخر، والإشارة الأخيرة بـ(ولاية تركيا) هي تهديد لكي تعود الأمور لنصابها، وإلا فالداعشيون في الداخل التركي موجودون، ولقد دخلوا بأيدي تركيا ذاتها، فجندوا واستقطبوا، وهم جاهزون الآن لكل شيء؛ لأن طباخ السم أحيانًا يذوقه.