وارد بدر السالم يكتب:

سوسيولوجيا الاتجار بالنساء في العراق

أفرز التغيير السياسي في العراق منذ عام 2003 كثيراً من المسكوت عنه في المجتمع العراقي .وكثرت الأطاريح الأكاديمية والدراسات الميدانية عن هذا المخفي في الجسد الاجتماعي المحلي وتوابعه الخطيرة بشكل يكاد يكون مفاجئاً لمجتمع محافِظ بسلوكه اليومي العام. ومثل هذه الدراسات الميدانية والنظرية كشفت الكثير من تفاصيل القاع الاجتماعي الذي توصل إليه باحثون عبر دراسات موثقة وبالتفاصيل الحرجة التي قد لا يستسيغها المواطن العادي كحقيقة آخذة بالانتشار والاتساع. لكنها تقع ضمن معطيات ما بعد الاحتلال كنتيجة حتمية لبلاد مرّت بحروب وفيها فقر وجهل وأمية وعنف اجتماعي وسياسي.

من بين الكتب التي صدرت مؤخراً كتاب جديد للباحث علي كريم السيد بعنوان “جائعون للجسد – دراسة في سوسيولوجيا البغاء والاتجار بالنساء في العراق” وهو رسالة أكاديمية تراقب -ميدانياً- ما تمخض من السلوك الاجتماعي بعد 2003 وما طرأ من إسقاطات واقعية في موضوعة الاتجار بالمرأة عبر البغاء بوصفه محظوراً اجتماعياً ودينياً، وتأتي هذه الرسالة ضمن كشف هذا المحظور والمخفي الناتج من إسقاطات الحرب عليه بسيادة طبقة سياسية غير مؤهلة لأن تقود المجتمع وترمّم الكثير من الثغرات التي أفرزتها سياسات الفساد المستمرة. ولعل الاتجار بالنساء عبر البغاء ومشتقاته المحاذية أقل دليل على مثل هذه الانكشافات السرية التي يوليها الباحثون في علم الاجتماع والدراسات النفسية اهتماماتهم الاستثنائية في الدراسات الجامعية.

نظريات وواقع
تريد هذه الدراسة أن تلقي أضواء كاشفة على موضوعة البغاء كونه وسيلة من وسائل الاتجار بالمرأة، ويكتشف الباحث أن هناك منظومة واسعة في شبكة عديدة الأذرع في الشارع الاجتماعي، كالسخرة والاستغلال الجنسي وبيع الأعضاء البشرية وخطف النساء والأطفال وتهريبهم خارج العراق، والمتاجرة بجسد المرأة العراقية إلى بعض دول الجوار فأصبحت سلعة للمتاجرة والمرابحة في ظروف سلبية نتيجة “الضعف الأمني وعدم الاستقرار السياسي” كما يسبّبه الباحث بشكل أولي، تمهيداً لمعاينة نظريات عديدة لمفهوم الاتجار بالنساء والمراحل التاريخية التي مر بها كون الاتجار بالبشر “ثالث أكبر تجارة إجرامية في العالم بعد تجارة المخدرات وتجارة السلاح”.

المخفي الاجتماعي والمسكوت عنه يظهر إلى العلن في الوقائع اليومية
معاينة نظريات عديدة لمفهوم الاتجار بالنساء
وهذا الكتاب الميداني اضطر لأن يقف أمام عدد من النظريات المفصلة عن البغاء وتعريفاته العالمية والانحراف وخطورته الاجتماعية ومفهوم المجتمع الجسدي وموقف الأديان عبر التاريخ من الاتجار بالنساء، مروراً بموقف الإسلام من الرق وتجارة الرقيق في العصرين الأموي والعباسي وما جاءت به الجيوش من “غنائم” نسائية كونها كانت متاحة ومشروعة، وصولاً إلى الاتجار بالنساء في العراق المعاصر -بعد الاحتلال الإنكليزي- ونقطع في هذه الرحلة أشواطاً طويلة بين التاريخ الذي أباح مثل هذه التجارة لأسباب التاريخ ذاته، وبين التاريخ العراقي

المعاصر الذي أوجد في بغداد ثغرات اجتماعية أنتج منها التفسخ الأخلاقي بوجود الملاهي والمراقص والغناء والحياة المفتوحة بوجود

الغلمان والسماسرة من عشرينات القرن الماضي، ليجد الباحث متسعاً للتوسع في إدراج مفهوم الاتجار بالتفسيرات السوسيولوجية كنوع من أنواع السلوك المنحرف المخالف للمعايير الاجتماعية والدينية، مراعياً العديد من النظريات الاجتماعية التي تحلل هذا السلوك وتفسره وتشير إلى أسبابه الكثيرة.

نتائج اجتماعية
هذه الدراسة الاستكشافية الأولى من نوعها في العراق التي “تستهدف رصد جوانب لم تؤخذ بشكل جدي من قبل” تلقي الضوء على الكثير من المخفي الاجتماعي والمسكوت عنه الذي أعقب التغيير السياسي، وما تركه من أثر سلـبي عـلى مستوى الفرد والجماعة.

وجاء العمل الميداني الحقلي الذي اتّبعه الباحث في هذه الدراسة ليكشف الهوّة الاجتماعية التي تسببت بها عوامل سياسية وأمنية وأسرية ضد المرأة العراقية، وكانت الزيارات المتكررة إلى دور البغاء في مناطق متنوعة من العاصمة بغداد، بواسطة مخبرين وأصدقاء ميدانيين ساهموا في تسهيل الدراسة، أباحت للباحث حرية الدخول واللقاء المباشر للعينات الميدانية الحقيقيةً من الصبايا والنساء تحت غطاء أمني شخصي وسري في ظروف أمنية معقدة، ليستخلص نتائج اجتماعية محددة لهدف الدراسة؛
منها أن بيوت البغاء لا تقتصر على تقديم الخدمات الجنسية وحسب وإنما توفّر ملجأ أساسياً للهاربات من أسرهنّ من اللواتي يبحثن عن مأوى (وهذا النوع من النساء هو المادة الخام التي ترتكز عليها عملية الاتجار) ومن ثم يمكن للباحث أن يلتقط أن هذه البيوت تقوم بعملية بيع الفتيات وشرائهنّ بأسعار بسيطة والتعامل معهن كبغايا؛
لكن تختلف طرائق العمل في هذا الجانب من مكان إلى آخر. فالمناطق الفقيرة يديرها الرجال،عكس المناطق الراقية التي تديرها النساء والتي تضم الصغيرات الهاربات من أسرهنّ لأسباب كثيرة حيث “يقل تواجد عناصر الضبط الاجتماعي كالعشيرة ورجال الدين”.

ومثل هذا التوضيح المُسبّب يقود إلى مشكلة أخرى يكشفها الباحث في التلويح بالعمل أو السخرة “إذْ تتآمر بعض مكاتب السفر على من يرغب من الرجال والنساء في السفر من أجل العمل” حيث يتم خداع الكثيرات بهذه الطريقة ويتم إرغامهنّ على العمل بالدعارة لاستيفاء أجور نقلهنّ من بلدانهنّ إلى بغداد،
وهذه طريقة ماكرة للإيقاع بالفتيات الباحثات عن العمل في استقدامهنّ إلى بغداد تحت ذرائع العمل والوظيفة، وما يشابه ذلك في العد العكسي هو الاتجار المضاد بالعراقيات إلى بعض دول الجوار عبر مافيات متعددة معروفة وغير معروفة. مما يشكل انتهاكات لحقوق المرأة وامتهاناً لإنسانيتها.

يكشف الباحث أن ثمة طرقا أخرى للاتجار بالمرأة وهي الآخذة بالانتشار كمسلّمات أولية للشروع بتوريط النساء في أفعال مدنسة تنتهك المعايير الاجتماعية والدينية، كالذي يحدث في مقاهي الكوفي شوب التي انتشرت في بغداد، وهي أحدث مظاهر استغلال الجسد باختلاف طبيعتها الخدمية عن المقاهي القديمة وعصرية معمارها وإنشائها حيث “تستخدم جسد المرأة لجذب أكبر عدد من الزبائن”، وأنّ بعض أصحاب الكوفي شوب “يشترون الفتيات من سماسرة البغاء” وهو ما أطلق الباحث عليه بـ”الاتجار السوسيولوجي” لأنه ينطوي على الهيمنة والاستغلال الجنسي.

يقابل ذلك الاتجار نوع آخر لا يقلّ سوءاً عن هذا وهو الاتجار الذي اتخذ شكلاً “فنياً” سيبدو من الخارج أن لا غبار عليه، لكن حقيقته غير ذلك عبر الأغاني الحديثة “الفيديو كليب” التي تقودها مجموعة من القنوات الجديدة التي ظهرت مؤخراً في العراق التي تعتمد على “الموديل” إذ يتم اختيار فتاة صغيرة وجميلة تقوم بالرقص وعرض جسدها، وهذا يقع ضمن الوظائف “الخفية” التي يلجأ إليها المتاجرون بأجساد العراقيات وبالتالي تسهل قيادتهنّ تحت ظروف المال والعوز، ولعل “الاتجار بالحب” هو الأكثر شيوعا بين سماسرة البغاء وهو ما يسميه الباحث بـ”دعارة الغير” بعد أن يكونوا قد أوثقوا إحكام فكرة “الاستقعاد” للفتيات بدعوى الحب والزواج المؤقت وإجبار الفتاة على الدعارة للكسب المالي، وهو “استثمار الجسد وتحويله إلى رأس مال” بطريقة مهينة وشاذة.