سعد القرش يكتب:
الأزهر يستهلك نفسه في معارك صغيرة
كان عنوان المقال "الأزهر يُهدر هيبته في معارك صغيرة"، ورأيته غير حسن، وخفّفته من إهدار الكبرياء إلى الاستهلاك الذاتي، أملا في موقف حاسم من الأزهر، مع حكم محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة، اليوم الأحد 26 مايو 2019، في جلسة ستحدد مصير البرنامج التلفزيوني "رامز في الشلال".
كان محام من هواة الشهرة قد رفع دعوى، في أبريل الماضي، يطالب بوقف بث البرنامج الفكاهي، من دون أن يعرف مضمونه، وما إذا كان يسيء إلى العقيدة أو لا يسيء، إذ تضمنت الدعوى ثرثرات لم ترد في البرنامج الذي يذاع يوميا منذ بداية رمضان، ويخلو من المساس بالغيبيات، أو السخرية من ملائكة لا تحتاج إلى دفاع من محام زايد على الأزهر الشريف، فاختصمه أيضا، ووضعه في جبهة واحدة مع الممثل الكوميدي رامز جلال مقدم البرنامج التافه.
لا خصومة للأزهر مع برنامج "رامز في الشلال"، لكن صمته حمّال أوجه. فهذه قضية حسبة لم يحسمها دستور 2014 بمنع المواطنين أن يفرضوا وصاية على غيرهم، ومنح الدستور صفة المحتسب للنيابة التي تحرّك دعاوى الحسبة، فالمادة رقم 67 تكفل حرية الإبداع. وتقول "لا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة". وكان للنيابة أن تحفظ قضية برنامج "رامز في الشلال"، وتوجه إلى المحامي تهمة البلاغ الكاذب؛ لأن دعواه تضمنت كلاما مرسلا كذّبه البرنامج حين أذيع، وليس فيه "دعوة للفتنة… دعوة لأصحاب الأفكار الهدامة للدخول في الغيبيات والمسلمات الإسلامية… الاستهزاء بعقيدة الإسلام في ظل الأزهر الشريف والقضاء الشامخ… الدعارة الفكرية والمسماة بالإبداع الفني والإعلامي… الدعارة الفكرية تتحكم.. عن طريق البرامج الهدامة… إعطاء فرصة للشيعة وأعداء الإسلام للدخول في العقيدة بمدخل غير صحيح… يسمح بانتشار هذا الفكر الشيعي بعدم اعتراض صريح من الأزهر الشريف".
اختصام المحامي للأزهر هو افتعال لمعركة، لكي يجرّ الأزهر فيدخل طرفا فيها، وليت الأزهر اعترض على تردي نظام التعليم الذي يخرّج محامين بهذا الوعي المسطح، فيلقون الاتهامات المجانية على من لا علاقة لهم بالبرنامج مثل الشيعة. وكان للنيابة أن تتهم المحامي بإزعاج السلطات، والهذيان بأمور لم ترد في البرنامج بالصورة أو التعليق الصوتي. وإذا كانت النيابة كريمة فلها أن تحيل إلى الطب النفسي من يتقدمون إليها بمثل هذه الدعاوى من المحامين العاطلين، وهم يترصدون برامج وتصريحات تلفزيونية وتعليقات في وسائل التواصل الاجتماعي، في انتظار هفوة أو كلمة عابرة يستندون إليها في رفع دعوى حسبة.
هذه الدعاوى والأحكام القضائية تدل على أن مصر لم تدخل القرن الحادي والعشرين. ففي عام 2016 قضت محكمة بحبس إسلام بحيري مقدم البرنامج التلفزيوني "مع إسلام" لمدة سنة، وجريمته أنه انتقد بشيء من السخرية فقها بشريا قديما لا يلائم عصرنا، ويتناقض مع العقلانية ومواثيق حقوق الإنسان، مثل الانقضاض على "عدو" بهدف استرقاق النساء، وجلب الأسرى وبيعهم لفكّ الضائقة الاقتصادية، وغير ذلك من الموروث غير الملزم للمسلم المعاصر.
وكان شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب قد رفع دعوى لوقف برنامج «مع إسلام»؛ بحجة أنه "اعتاد على التطاول والهجوم على الشريعة الإسلامية والتراث الإسلامي… مستغلا حرية التعبير والاتصال المكفولة دستوريا في هدم تراث الأمة". وفي عام 2017 قبلت محكمة القضاء الإداري دعوى شيخ الأزهر، وقضت بوقف بث برنامج "مع إسلام" الذي تذيعه فضائية "القاهرة والناس"، وحظر بث حلقات البرنامج على الفضائيات. ورفضت المحكمة مطالبة شيخ الأزهر بوقف قناة "القاهرة والناس" ومنع ظهور إسلام بحيري بالفضائيات. اكتفت المحكمة بمصادرة البرنامج، وكان شيخ الأزهر يستهدف الخلاص من البرنامج ومقدمه معا.
يسيء إلى الأزهر تراثه في مجال المنع والمصادرات لبرامج وكتب وأعمال فنية. وأي مؤسسة راسخة في التقليد، لكي تنخرط في العصر وقضاياه المعقدة، فإن عليها أن تتسلح بأدوات ومهارات وآليات جديدة، عصرية غير مستعارة من الماضي. فالتحرر من القيود التاريخية غير الملزمة للمستقبل هو بداية تبني لاهوت لتحرير العقل والانتصار للخيال، بدلا من التطوع إلى إعلان الحرب عليه، في حين يذهب الجمهور والخيال إلى مكان آخر، كما كان الحال في قضية فيلم "الرسالة". وتلك معركة خاسرة دخلها الأزهر، ثم انتصر الزمن للإبداع، ولو تذكّر مشاهد للفيلم الآن موقف الأزهر، فلن يشعر إلا بالكثير من الرثاء.
في يوليو 1977 أصدر الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر بيانا صريحا ضد فيلم "الرسالة" لمصطفى العقاد. لهجة البيان حادة كأن البلاد توشك أن تخوض معركة حربية حاسمة: "باسمي.. وباسم الأزهر.. وباسم مجمع البحوث الإسلامية الذي درس هذا الموضوع في عدة جلسات عقدها لهذا الغرض. أعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان ‘محمد رسول الله’ صلى اللـه عليه وسلم، أو أي فيلم آخر يتناول بالتمثيل، على أي وضع كان، شخصية الرسول أو الصحابة رضوان الله عليهم، ذلك لأن ظهور هذه الشخصيات على الشاشة السينمائية ـ تصريحا أو تلميحا أو بأي صورة من الصور الخفية أو المعلنة ـ ينقص من قيمتها ويحط من منزلتها في وجدان المسلم… كذلك فإن الأمر يتصل بمجال عرض الفيلم في الدور المعدة لذلك بلا شك يترك أثرا على قداسة الشخصيات الإسلامية… لا يجوز من الناحية الإسلامية السماح بإنتاج فيلم ‘محمد رسول الله’، كما لا يجوز السماح بعرضه. وندعو حكام المسلمين وأولياء أمورهم، كما ندعو الأمة الإسلامية كلها إلى إيقاف العمل في هذا الفيلم".
من حسن الحظ أن حكام المسلمين وأولياء أمورهم والأمة الإسلامية كلها لم تكن طرفا في إنتاج فيلم "الرسالة" الذي قدم إلى الإسلام خدمة جليلة، تعريفا برسوله الكريم ومبادئه السمحة، بأكثر من خريجي الأزهر في عدة عقود، والبعض منهم تبنى الدعوة إلى القتل. وعرض فيلم "الرسالة" في دور العرض السينمائية، ويتوالى عرضه في الفضائيات، وبعده أنتج مسلسل "الحسن والحسين" وغيره، من دون أن يتلقى الأزهر شكوى واحدة تزعم أن تجسيد الصحابة، وبخاصة العشرة المبشرون بالجنة وغيرهم من الشخصيات "ينقص من قيمتها ويحط من منزلتها في وجدان المسلم" كما نص البيان الخائف لشيخ الأزهر.
التطور العقلاني سيدعو الأزهر يوما إلى ترك ما لقيصر لقيصر، وتجاهل خوض معارك صغيرة من أجل المنع الذي يحمل معنى التحريم، وينفصل عن وجدان جمهور أثبت أنه أكثر وعيا بدلالة الفن، وأجمع على محبة فيلم "الرسالة". وأسأل نفسي: ماذا كان المسلمون سيخسرون لو استجاب مصطفى العقاد لرأي شيخ الأزهر؟ وأستدعي عنوان كتاب أبي الحسن الندوي "ماذا خسر الإسلام بانحطاط المسلمين؟"، وبه أختم المقال.