محمد أبوالفضل يكتب:
إشكالية الضمانات الخارجية في الأزمة السودانية
أدى ازدياد اهتمام دوائر إقليمية ودولية بما يجري في السودان إلى استدعاء الكثير من المكونات الخارجية في الأزمة، بكل ما تحمله من حسابات متباعدة ومصالح متضاربة وتصورات متناقضة أو متقاربة مع الأطراف الداخلية. ويسعى كل طرف فيها إلى التأثير على مواقف القوى الخارجية لصالحه، من دون اعتبار كبير لفضيلة التفاهم على قاعدة المرتكزات المشتركة التي تسهل عملية التسوية وعبور الأزمة في أمان.
تبدلت تقديرات المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير عقب فض الاعتصام بالقوة أمام وزارة الدفاع في الخرطوم، وما نجم عنه من أصداء وتداعيات سلبية أفضت إلى جذب انتباه جهات خارجية عديدة، خشيت أو ترددت من عواقب الاقتراب المباشر، حتى وجدت دولة مثل إثيوبيا نفسها مدعوّة للتدخل والقيام بدور رئيسي في الوساطة، وكذلك الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، والأمم المتحدة وبعض المنظمات التابعة لها.
أدلت كل هذه الدوائر بدلوها السياسي في الأزمة بما جعلها تبدو قريبة ومعنية بتطوراتها، ناهيك عن نداءات وتصريحات من دول مختلفة، عززت الانطباعات بأن السودان أصبح شأنا دوليا بامتياز، وأزمته تنتظرها أشواطا وعرة.
وسط هذه المعطيات، كشفت الولايات المتحدة عن اهتمام بالغ بالأحداث المتفاقمة، ظهرت معالمه في زيارة مهمة للخرطوم قام بها تيبور ناجي مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، تلتها خطوة تعيين السفير دونالد بوث مبعوثا أميركيا خاصا للسودان كدليل على تكثيف الأضواء.
منح هذا التطور المحتجين شعورا معنويا بالتفوق، وضاعف مخاوف المجلس العسكري حيال الضغط عليه وإجباره على الخروج من المشهد برمته تحت شعار التعجيل بتسليم السلطة لحكومة مدنية، مع توافر حزمة من الضمانات الخارجية، قد تعوّض اهتزاز الثقة بين الطرفين الأساسيين في المعادلة السودانية.
هناك ملامح لتكتلات موازية يمكن أن تظهر في الشارع، بعضها ينحاز لأحد الطرفين، والبعض الآخر يميل إلى تكوين ما يعرف بطريق ثالث، بما يخرج الأزمة من فكرة حصرها في كفتين متوازنتين
حظيت المقاربة الأميركية الجديدة باهتمام غالبية الأطراف، واتخذت دليلا على نية واشنطن التعجيل بالتسوية، من خلال دعم العراب الإثيوبي الساعي إلى إطفاء الأزمات في المنطقة. فالولايات المتحدة تؤيد الحكومة المدنية، ولا تقف في وجه صعود المؤسسة العسكرية، وهي مفارقة أضفت على زيارة مسؤوليتها قدرا من الشكوك، وعجزت عن توفير ضمانات لطرفين أصبحا مختلفين في كل القضايا تقريبا.
تبدو فكرة الضمانات مطاطة وربما تقود الأزمة إلى دروب وعرة، فمطالبة المعارضة بها كشرط للدخول في حوارات مع المجلس العسكري تؤجل الحل، ولا توجد قوة تستطيع التصدي لها مباشرة، كما أن التأكيد على عدم التخلي عن تحقيقات بإشراف دولي في قضية فض الاعتصام ومحاسبة من ارتكبوا الجريمة يجعل المحادثات المتوقعة متعثرة، فالتوصل إلى نتائج سريعة عملية يحتاج إلى وقت طويل، والربط بينهما يؤخر الجهود الرامية للتسوية.
قد يُدخل العزف على وتر الضمانات السودان سلسلة من التجاذبات، لأن قوى الحرية والتغيير كانت ترفض في البداية الأدوار الخارجية من أي نوع، وعند قبولها بعد الشعور بمراوغات من قبل المجلس العسكري بات حديث الأخير منصبّا على الثقل أو الوزن النسبي لها في الشارع يتزايد بهدف حرف الأنظار عن الملفات الحيوية.
ظهرت تلميحات من الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس المجلس توحي بالحصول على تفويض شعبي لتشكيل حكومة تكنوقراط، عقب حضوره مؤتمرا حضره الآلاف من المواطنين أيّدوا توجهات العسكري، في إشارة إلى القدرة على حشر تحالف الحرية والتغيير في زاوية ضيقة، والضغط لحرمانه من المكاسب السياسية التي حصل عليها بعد الفض، ونزع فتيل التعاطف الشعبي جراء إسالة الدماء في ساحة الاعتصام.
كشفت التطورات الداخلية عن وجود ارتباك في صفوف الطرفين اللذين من المفترض أن يعودا إلى طاولة التفاوض قريبا، فالمجلس بدأ يتنصل من مسؤوليته عن الفض وموافقة النيابة العامة عليه بعدما اعترف سابقا بذلك، وتنتاب الشكوك عملية إحالة عدد من الضباط للمساءلة القانونية عن بعض التجاوزات، كما أن حديث التحضير لانقلابات داخله فترت، وجرى فهمها على أنها تخفيف لحديث الضمانات، وجاء تأجيل الإعلان عن نتائج التحقيقات حول فض الاعتصام ليقلل من إمكانية اللقاء والتفاهم على محددات الخروج من الأزمة.
تتعامل قوى الحرية والتغيير مع هذه التصرفات بنظام ردود الأفعال، وفرضت في مجملها التشبث بفكرة الضمانات، وهي مدركة أنه لا توجد قوى إقليمية أو دولية تستطيع توفيرها بعيدا عن التوافق مع المجلس العسكري، لأنها تخشى ممارسة ضغوط تفضي إلى اتساع رقعة الارتباك والفوضى، وتمنح قوى متربصة فرصة لتشتيت الانتباه والتنحي عن مناقشة جوهر الصراع الخاص بالخلاف بين المدني والعسكري وحل التشابكات المريبة التي تكتنف الالتفاف حول صيغة تنهي الاستقطاب الحاصل في البلاد.
فرضت مناوشات الأيام الماضية على الجهات التي تلعب دورا في تسهيل الوساطة عدم تعجيل الإعلان عن استئناف المفاوضات بين الجانبين قبل وضع النقاط على الحروف، ولأن هذه الأزمة أول محك لرئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، فمن الضروري أن يكون الرجل حذرا في تحركاته، ويسعى إلى تهيئة الظروف لنجاحه، الأمر الذي يتطلب تليين مواقف الطرفين، لأنه لا يملك فانوسا سحريا يأتي له بضمانات تمكنه من نجاح مهمته في أزمة ذات خيوط مشدودة.
في غالبية أزمات المنطقة لا توجد جهة كبيرة أو صغيرة تضمن الحصول على تسوية مستقرة، إذا لم تكن الأطراف المحلية لديها النية في الحل السياسي. كما أن الدول والمنظمات التي تأخذ على عاتقها تحمل الوساطة تواجه تحديات صعبة تجعل التنافر بين القوى المتفاوضة رقما أساسيا، بصورة تحجم قدرة أي جهة الإعلان عن طمأنة كاملة للمتوجسين.
إذا تعهدت إثيوبيا، بالتفاهم مع القوى الخارجية المعنية، بتقديم ضمانات سياسية، فهل توجد ضمانات لوفاء المجلس العسكري أو قوى الحرية والتغيير بما يقع على عاتق كل طرف من التزامات؟ وهل توفيرها يقتصر عليهما فقط أم هما بحاجة إلى مشاركة آخرين؟
هناك ملامح لتكتلات موازية يمكن أن تظهر في الشارع، بعضها ينحاز لأحد الطرفين، والبعض الآخر يميل إلى تكوين ما يعرف بطريق ثالث، بما يخرج الأزمة من فكرة حصرها في كفتين متوازنتين، ويفتحها على مسارات تقود إلى زيادة معدل التشويش الطاغي حاليا في المشهد السوداني.
يؤدي الاستغراق في حديث الضمانات إلى إطالة عمر الأزمة، وما لم تكن هناك ثقة محلية متوافرة بوضوح يصبح من الصعوبة وقف الاستنزاف السياسي، الذي قد يتحول إلى هدف محوري بحد ذاته، ويرى فيه البعض مخرجا من الانسداد الظاهر كي لا يتحملون مسؤولية التعثر أو يضطرون إلى تقديم تنازلات تحرجهم أمام مؤيديهم.
يجيد السودان صناعة الأزمات المفتوحة، لكنه لا يملك القدرة على حل شفراتها، وقد كان بإمكان المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير التلاقي مبكرا عند نقاط مشتركة تبعد شبح التدويل، لأن القوى التي تصدت لإخماد الأزمة قد يصعب عليها فك الألغاز التي تكتنف الكثير من معالمها دون كبح القوى التي تستطيع تحويل إشكالية الضمانات الخارجية إلى داخلية.