محمد أبوالفضل يكتب:

الموجة الثالثة من الثورة السودانية على محك التنازلات المتبادلة

مرّت الثورة السودانية بمنعطفات كثيرة منذ انطلاقها في ديسمبر الماضي. وإذا اعتبرنا عزل الرئيس عمر حسن البشير وتشكيل المجلس العسكري الانتقالي نهاية الموجة الأولى، وفض الاعتصام وما تلاه من إضراب شامل نهاية للموجة الثانية، يمكن القول إن السودان يعيش موجة ثالثة حاليا مليئة بالتحديات السياسية والأمنية، وقد تصل به إلى بر الأمان أو تصبح بداية لموجة أخرى أكثر صعوبة.

بدأت الموجة الثالثة مع انطلاق الوساطة الأفريقية التي يرعاها آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا على أمل التوصل إلى صيغة تفاهم بين المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير، لكنها لا تزال تواجه مطبّات من قبل الفريقين.

وإذا فشلت الصيغة الجديدة التي يحملها السفير محمود درير رئيس الوفد الإثيوبي، فإن مسألة الحكم ستكون بحاجة إلى تنازلات وعزيمة وإرادة لتجاوز المشكلات الممتدة. وتقوم الصيغة المقترحة الآن على اقتسام المجلس السيادي (7 لكل فريق) والرئيس بالتوافق ومن فريق ثالث، والتي يميل التحالف إلى قبولها لقذف الكرة في ملعب المجلس العسكري، الذي يريد البقاء في السلطة.

حدثت تغيّرات كبيرة في التكتيكات والتصورات والتصرفات من جانب الفريقين في الموجة الجديدة. وتبدّلت أدوار وانقلبت حسابات. فقد أخذ المجلس العسكري يهتم بمخاطبة الشارع ويسعى إلى استرضائه ونيل ثقته، أملا في نزع واحدة من الأوراق التي تستحوذ عليها قوى الحرية والتغيير. ويتجه الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري إلى عقد سلسلة من اللقاءات الجماهيرية لزيادة الشعبية، وقام نائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) بالحديث أمام ما يسمّى بـ”الإدارة الأهلية”، في محاولة لإيجاد قاعدة جماهيرية.

وتسارعت التحرّكات حيال استقطاب بعض الأحزاب السياسية سعيا وراء الحصول على ظهير شعبي قد يتم اللجوء إليه عندما يشتد الخلاف على طاولة المفاوضات، وكي لا تهيمن قوى المعارضة على الشارع وتحرّكه نحو الوجهة التي تريدها، الأمر الذي يزعج المجلس ويجعله يبدو مفتقرا للحضور الشعبي، ما يؤثر سلبا على فرصه في الحكم، باعتباره جهة عسكرية تنحصر مهامها في الحدود الأمنية.

حسم المعركة

لم تثمر هذه الخطوات عن إنجازات ملموسة على الأرض تؤكد حسم المعركة السياسية للعسكري (المجلس)، لكن تحركاته على المستوى الداخلي أوحت بأنه استطاع ترتيب الكثير من أوضاعه، وتخلص من بعض القوى المناهضة لقيادته، وقضى على جيوب رافضة لتوجهاته من خلال الإعلان عن إجهاض عدد من المحاولات الانقلابية، والمضي قدما في عملية التحقيقات بشأن معاقبة الجهة المسؤولة عن التجاوزات التي ارتكبت في أثناء فض الاعتصام.

يضلف إلى ذلك تطوير العلاقات الخارجية بالتوازي مع دول عدة، ليخفف من حدة الانتقادات التي تعرض لها عندما بدا المجلس أكثر ميلا للتعاون مع مصر والسعودية والإمارات، وهو ما استغلته بعض الجهات للتشكيك في تحركاته، لتفريغ الدعم المادي والمعنوي الذي قدّمته الدول الثلاث من مضامينه الإيجابية، وحشر المجلس الانتقالي في موقف دقيق يظهره كمن جاء على رماح أجنبية ويسعى إلى خدمة أهدافها.

حصل المجلس العسكري على حضور أكبر في الشارع السوداني، عندما نجح في ضبط أوجه الخلل في أدائه وقوّض الجهات الممانعة أو المتحفظة عليه بانفتاحه على دول الجوار، مثل إثيوبيا وجنوب السودان وإريتريا وتشاد، واستعاد قدرا من اللياقة السياسية التي فقدها عند إقدامه على فض الاعتصام بالقوة المفرطة، وجنى ثمارا جراء التحذيرات المتتالية من انفراط عقد البلاد، إذا جرى تهميش الجيش وخروجه من السلطة خالي الوفاض، ولذلك أصبح الجهة الوحيدة الضامنة لأمن واستقرار السودان.

جاءت المخاوف من رحم أوضاع أمنية مهتزة في جميع أنحاء البلاد، ومع بوادر خلاف نشب مع حركات مسلحة، منها الجبهة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال، حيث تم ترحيل ثلاثة من قادتها قسرا إلى جوبا، بما أدى إلى أصداء سلبية لدى حركات أخرى في الشرق والغرب والجنوب.

واتسع نطاق الهواجس من بعض التدخلات الخارجية من الدول الداعمة للحركة الإسلامية في السودان، وتريد توظيف الارتباك السياسي والتذبذب الحاصل في المبادرات لصالح استعادة حضورها في قلب السلطة. وكلها مؤشرات تعزز قلق المجلس العسكري من تسليم السلطة لحكومة مدنيّة من دون استعدادات جيّدة.

وبدأت بعض القوى الوطنية تقتنع بهذا التوجه وتتعاطف مع تقدير التمهل وعدم الاستعجال في تشكيل حكومة مدنية صرفة أو خروج المجلس من معادلة الحكم وسط أوضاع سياسية وأمنية مرتبكة، تحتاج للمزيد من الوقت لوقف تداعيات الاضطراب على أصعدة مختلفة.

دشن تحالف إعلان الحرية والتغيير الموجة الثالثة بالإعلان عن تسيير مظاهرات ليلية في الخرطوم، غير أنه فقد جزءا من الحيوية التي صاحبته في السابق. وكشف التحرك الجديد عن تراجع التفاعل الجماهيري مع أطروحاته، لأن المجلس العسكري أحكم قبضته الأمنية، وأعاد تقويم سياساته بناء على المعطيات في الشارع، وتكبّدَ المحتجون خسائر معنوية بعد قطع الإنترنت في أنحاء البلاد، وتراجع مفعول الشبكة العنكبوتية، وفقد التحالف القدرة على الوصول سريعا إلى شريحة كبيرة من القوى المنخرطة في صفوفه، وخسر سلاح الحشد عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

ناهيك عن تصاعد بذور الخلافات داخل صفوف تحالف الحرية والتغيير في الوقت الراهن، بعد أن كان التلاحم والتماسك والتفاهم من العلامات الواضحة في الموجتين الأولى والثانية. وهي الظاهرة التي مكنت المعارضة من تسجيل عدد من الأهداف المؤثرة في مرمى حكم البشير ثم المجلس العسكري.

انتقادات لاذعة

طغت سخونة التراشقات بين حزب الأمة القومي والجناح اليساري في التحالف على تفاصيل الصيغة المطلوب التوافق حولها للتفاوض مع المجلس العسكري. ووجه تجمع المهنيين، وهو جناح رئيسي في قوى الحرية والتغيير، انتقادات لاذعة لوفدها الذي زار أديس أبابا، الجمعة، لاستكمال المحادثات حول الوساطة الإثيوبية، ومنحها دفعة سياسية تعيدها إلى الواجهة مرة أخرى، وتُوقف نزيف النقاط بسبب تعدد المبادرات.

قلّل التزاحم في الوساطات الخارجية من النجاح الذي صاحب الدور الإثيوبي في البداية والذي وجد دعما من دوائر إقليمية ودولية جعلته مقبولا من جانب أطراف كثيرة. وخلال الأيام الماضية حاول أحمد أبوالغيط، الأمين العام للجامعة العربية، جسّ النبض بشأن قيامه بوساطة لمنع التصعيد في السودان، لكن خطوته لم تحظ بترحيب جهات كثيرة، وفُهمت على أنها محاولة لمنافسة المبادرة الأفريقية – الإثيوبية وليس لحل الأزمة السودانية.

دخلت دولة جنوب السودان على الخط أيضا، وأرسل الرئيس سيلفا كير وفدا للخرطوم برئاسة توت قلوال، ولم تسفر لقاءاته مع وفدي المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير عن تقدّم يذكر، وأوحى التباين في التقدير السياسي للخطوة بأن المسافات متباعدة بين الفريقين، فقد ألمح العسكري إلى أنها مبادرة وتعامل التحالف معها على أنها تحرك يرمي إلى تقريب المسافات ولا يرقى إلى مستوى المبادرة. وفي الحالتين حمل التحرك انطباعا برغبة البعض في إطالة أمد الأزمة، بما يضاعف من ارتباك المشهد، الذي يصب في صالح جهات معيّنة.

تحتاج الموجة الثالثة إلى تنازلات كبيرة من جميع الأطراف، قبل أن يدخل السودان معمعة أشد خطورة للشد والجذب، لأن الطرفين الرئيسيين في المعادلة (المجلس العسكري والحرية والتغيير) لن يستطيع أحدهما الفوز بالضربة القاضية أو حتى تسجيل النقاط. فهناك اعتبارات استراتيجية تحتّم التفاهم والابتعاد عن السجال قبل أن تنزلق البلاد إلى توترات تصعب السيطرة عليها، وتصبح السلطة حملا ثقيلا.