محمد أبوالفضل يكتب:

السوريون في مصر أبعد من السياسة

هدأت الضجة المفتعلة التي أثارها البعض مؤخرا حول أوضاع السوريين في مصر، وهدأ الغبار الذي أثير حولهم، وأصبح الحديث مواتيا بعيدا عن أي انفعالات من هنا أو هناك تحرف الموضوع عن مساره الحقيقي. فشل الصخب الذي صاحب تفجير القضية، عن عمد أو من دونه، في التشويش على علاقة تتجاوز حدود السياسة بين الشعبين المصري والسوري.

بالطبع لا يصح التعميم بالسلب أو الإيجاب عن متانة العلاقات المشتركة بين جميع الفئات، لكن المؤشرات العامة جعلت من السوريين حالة خاصة متميزة في مصر خلال السنوات الماضية، بما يفوق الانتماءات السياسية ويتخطى الانحيازات العقائدية، ويعمق الروابط المجتمعية الكفيلة بأن تجهض المساعي الرامية إلى إحداث فتنة أو تحريض على السوريين، أو دفع القاهرة إلى اتخاذ إجراءات قاسية تؤدي إلى توتير العلاقة بين شعبين شقيقين.

استقبلت مصر أعدادا كبيرة من السوريين، كما استقبلت ملايين المواطنين من فلسطين والسودان والصومال والعراق، ثم آخرين من ليبيا واليمن وغيرهم، دون تفرقة بينهم جميعا. وباتت هناك أحياء وتجمعات سكنية في القاهرة والمدن العريقة معروفة بأسماء جاليات عربية، سورية وعراقية وليبية، بشكل يؤكد وجود حياة طبيعية تتوارى فيها الكثير من معالم الاغتراب التقليدية.

تعيش شريحة كبيرة من هؤلاء وسط المصريين بمختلف فئاتهم وطبقاتهم دون أن يشعر أحد بالتفرقة بين الجانبين في المظاهر الحياتية، باستثناء اللهجة التي قد تكشف عن الهوية، وحتى هذه تراجعت كثيرا ويصعب ملاحظتها أحيانا في ظل الإقامة الطويلة، حيث تمصّر البعض وغلبت عليهم العامية المحلية، وبدت العلاقات الإنسانية وطيدة ومتشابكة مع السوريين، الأمر الذي جعل حديث الفتنة الأخير عديم الجدوى ويطويه النسيان سريعا.

تمتين العلاقة بين الشعبين والتأكيد على العمق الاقتصادي والاجتماعي سوف تكون لهما تداعيات لاحقة، تفضي إلى استثمار جديد في القوى الناعمة، وتفتح الباب للتعامل مع محنة لاجئي ومغتربي سوريا والدول العربية

لكن سوف تبقى عبره ودروسه ودلالاته فترة طويلة، لأن من حاولوا فتح جرح ربما يحاولون إعادة الكرّة مرات أخرى في المستقبل، وسط حرص على بث شائعات مغلوطة، وتصميم على جر قضية واهية إلى مناح سياسية دقيقة، وإدخالها دهاليز تشق الانسجام الظاهر في المزاج العام بين المصريين والسوريين، أملا في تعكيره.

أذهلتني شخصية سورية التقيتها في ندوة بالكويت منذ حوالي عامين، وهي تتحدث بثقة عن معسكرات اللاجئين السوريين الكثيفة في مصر، والمخيمات المعزولة التي يتم وضعهم فيها بمنطقة سيناء، بهدف إيجاد أجواء تحريضية على القاهرة أكثر من الرغبة في تخفيف المعاناة عن بني وطنها من السوريين.

عندما راجعت الرجل وحاولت تصويب مغالطاته وتأكيد عدم وجود هذه المظاهر، بُهت وراوغ ولف ودار على الأمر، كأنه فوجئ بوجودي كمصري في المؤتمر، في محاولة منه لعدم الاعتراف بافتراءاته، لأن مصر لم تعرف المخيمات أصلا ولم تضع أيا من أبناء الجاليات العربية أو غيرهم في معسكرات، حتى منظمة الأمم المتحدة للاجئين تصرف مساعدات مادية لكثيرين من دول مختلفة، ولم تعلن عن استضافتهم في تجمعات تشبه المخيمات أو المعسكرات.

حاول المثقف السوري المقيم في إسطنبول أن ينفي، بشكل غير مباشر، ما يحدث في تركيا من متاجرة سياسية واقتصادية بملف اللاجئين، وتصوير المسألة على أنها حالة إقليمية عامة، والزج باسم القاهرة في قضية لم تعرفها تاريخيا، ما منح مصر بريقا عربيا جذابا في التلاقح الشامل، يضاف إلى نجاحها في هضم واستيعاب الكثير من أبناء الجاليات العربية والغربية، فيما يعرف بالدولة “الكوزموبوليتانية”، التي تتسم بالثقافة المتنوعة والمنفتحة على الآخر.

كان السوريون واللبنانيون في الطليعة، وانخرطوا في النواحي الثقافية والفكرية والاقتصادية والسياسية منذ زمن، ولعبوا دورا مهما في التطور الحضاري خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ولا تزال بصماتهم شاهدة في مجالات عديدة بمصر، من أبرزها الثقافة والصحافة.

ساعد هذا الإرث العميق في إزالة الحساسيات المعروفة بين المغتربين والمقيمين، وزاد عليه التلاحم بين عدد من الأسر السورية والمصرية، والذي انتشر عقب إعلان الوحدة بين البلدين قبل نهاية الخمسينات (1958) من القرن الماضي، وما صاحبها من توسع في عمليات التجنيس، وإقبال كبير على الدخول في مصاهرات وعلاقات نسب في الوقت الراهن.

يشبه حال السوريين في مصر الآن حال من سبقوهم، مع اختلافات نسبية في درجة التأثير ونوع الفضاء الذي برعوا وأثّروا فيه، وامتدادهم لم يفقد مفعوله الحضاري. ولأسباب تتعلق بالأجواء العامة في مصر حاليا يكاد يكون حضورهم منصبّا على الأنشطة الاقتصادية، ونجحوا في تغيير جزء كبير من عادات المصريين في المعاملات وطقوس البيع والشراء. وأضفوا مصداقية على التجارة والاستثمار في المطاعم وصناعة النسيج والملابس والحلوى، وأثروا في المصريين أكثر مما تأثروا بهم، وبدلا من البحث عن فرص عمل في بلد مكتظ بالسكان ساهم رجال أعمال من السوريين في تخفيف حدة البطالة وتشغيل آلاف العمال والموظفين من المصريين.

لم تساعد البيئة على الاستفادة من النخبة الثقافية التي جاءت إلى مصر، كما حدث من عصور سابقة شهدت انفتاحا كبيرا، وبقيت حركة الأفراد محدودة في الاجتهادات الفكرية الصامتة والبعيدة عن الأضواء الإعلامية، لكن ظهرت ملامح إيجابية في مجالات الطرب والموسيقى والتمثيل والفن التشكيلي، ومُنحت لها الفرص كاملة.

انعدمت ممارسة السياسة إلا في النطاق الذي تسمح به الحكومة المصرية، واقتصرت تقريبا على اللقاءات الرسمية مع قيادات في المعارضة المقيمة في القاهرة، أو تلك التي تأتي إليها كلما كانت هناك دواع لذلك، ما أبعد عن السوريين في مصر الكثير من الالتباسات التي تحيط بأزمة بلدهم المستعصية، وجنبهم الانخراط في تراشقات كان من الممكن أن ترخي بظلال قاتمة على وجودهم.

مالت القاهرة في تعاملها مع الأزمة السورية في البداية إلى الحذر والتريث وعدم الانحياز للنظام الحاكم في دمشق، والاعتراف بحق المواطنين في اختيار نظامهم السياسي بالطريقة التي يرتضونها. ولم تنخرط مباشرة في تفاصيل الأزمة وروافدها الداخلية والخارجية المتشعبة، وحرصت على الانفتاح على قوى متباينة، واتخذت موقفا صارما من التنظيمات المتطرفة. الأمر الذي يدحض ذرائع من روجوا مؤخرا أن جزءا من أموال السوريين في مصر مصدرها جماعة الإخوان والسلفيون أو تعود إلى شخصيات نافذة فيهما.

انعكست التوازنات الدقيقة التي أقامتها القاهرة في التعامل مع الأزمة على السوريين، وأبعدتهم عن الدخول في مشكلات طائفية وحركية وهم يعيشون خارج بلدهم، ومكنتهم من الالتحام بالمواطنين المصريين على قواعد إنسانية وليست سياسية، ما أطفأ سريعا الضجة التي استهدفت تشويه صورتهم الذهنية، ومحاولة ربطها بجماعات متشددة إرهابية لا ترتاح لنمو الأواصر بين السوريين والمصريين.

تمتين العلاقة بين الشعبين والتأكيد على العمق الاقتصادي والاجتماعي سوف تكون لهما تداعيات لاحقة، تفضي إلى استثمار جديد في القوى الناعمة، وتفتح الباب للتعامل مع محنة لاجئي ومغتربي سوريا والدول العربية بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة. ومهما كانت الرواسب سوف تظل في ذاكرة الشعوب، وقد تترك نتائج إيجابية أو سلبية في المستقبل.