محمد أبوالفضل يكتب:
تفعيل ورقة النظام الليبي القديم
في كثير من الدول العربية التي شهدت انتفاضات وثورات متعثرة بدا الحنين لافتا للأنظمة التي سقطت، ليس حبا وغراما فيها، لكن لأن معظم الأنظمة الوليدة لم تحقق تطلعات وطموحات المواطنين، وأفضت إلى مشكلات سياسية واقتصادية وأمنية جعلت قطاعا كبيرا منهم يندم على تأييد التغيير والانخراط في الفعاليات المتنوعة.
قادت الحصيلة النهائية إلى ارتدادات سلبية وصراعات مختلفة، صبّت في صالح الغضب مما وصلت إليه حصيلة التطورات في الدول التي استقرت على أطرها الجديدة مثل مصر وتونس، ولم تتمكن الحكومات من إقناع الناس بجدوى ما أقدمت عليه، واضطرت في أحيان كثيرة إلى الاستعانة بشخصيات ورؤى من الأنظمة المغضوب عليها، وربما أفسحت لها المجال عن قصد ولم تعترض طريق للمشاركة، وأتاحت لكثيرين هامشا معتبرا في الحكم، أو على الأقل تراجعت عن فكرة العزل والقصاص من الأنظمة التي حكمت لفترة من الوقت ولم تحقق الكرامة لشعوبها.
تظل ليبيا الدولة الوحيدة المعلقة في هذه المسألة، فما يسمى بفلول النظام السابق تنحّوا ولم يلعبوا دورا ظاهرا إلى جانب أي من القوى الفاعلة في المشهدين السياسي والأمني. ولَم نر قيادات عسكرية بارزة، وهي كثيرة وخبيرة، بجوار المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي تسانده صراحة وتتبنى رؤاه، ولَم تتقدم شخصيات مؤثرة لمؤازرة فايز السراج رئيس حكومة الوفاق، وبالطبع لم تتشكّل ميليشيات تعمل لحسابها أو حساب من يدفع لها ماديا. بقيت ورقة نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي مرتبكة أو معطلة تقريبا، ولم تبد شخصيات معروفة انحيازا واضحا لأي من القوى المتصارعة سياسيا وعسكريا، ربما مال البعض بشكل فردي وفي لحظات معيّنة إلى هذا الطرف أو ذاك، لكن الثقل الحقيقي لم يستخدم وربما لم يأتِ دوره حتى الآن، وهو كبير من حيث الوزن النسبي على المستويات العريضة في الدولة، وأصبح كامنا بفعل فاعل، انتظارا ليوم يتقدم فيه أنصار هذا التيار لحسم التذبذب والارتباك والتوتر الحاصل في المشهد الليبي.
أثّرت الخلافات التي ظهرت على جسد النظام السابق قبيل سقوطه وفي أيامه الأخيرة من معركته الفاصلة مع حلف الناتو على قوته وقدرته على أن يكون رقما رئيسيا في المعادلة الجديدة، كما أرخى التيار الثوري الجارف بثقله القاتم على مطاردة أنصار وأتباع القذافي، خاصة في الأيام الأولى لثورة فبراير وما تلاها من احتقانات جعلت كثيرين ينكرون الانتماء إليه، ويصرّون على التواري عن الأنظار خوفا من المحاسبة والعقاب والتنكيل خلال لحظات الفوران السياسي والأمني.
أصبح الحديث منحصرا في أشخاص أكثر منه حديث عن كتل أو تيار واحد يضم تحته طيف واسع من مؤيدي نظام القديم، وبقي سيف الإسلام معمر القذافي رمزا مواربا، البعض قبل به كزعيم يمكن أن تلتف حوله قيادات وأشبال النظام السابق من سياسيين وعسكريين واقتصاديين وقبليين، والبعض رأى فيه سببا مباشرا من أسباب إخفاقات نظام القذافي ومن ثم نكبته وسقوطه الكبير، حيث شرّع الباب مبكرا لعودة قيادات إسلامية متشددة ودخل في حوارات معها، دون أن يدرك تحوّل هؤلاء لاحقا إلى رأس حربة في الأزمة الحالية.
وبسبب الصراعات التي اندلعت وخفضت الطموحات تعمّد سيف الإسلام تبنّي سياسة الغموض البناء. ولم يدخل في خلافات مع أي من الفرق المتخاصمة، وحاول استيعاب الفوارق، وإفساح المجال أمام لمّ الشمل في هدوء ومن دون الدخول في مناوشات معلنة، نجح حينا وفشل أحيانا، لكنه استمر لاعبا في الساحة الخلفية، يناور أو يلوح به البعض، وحرصت جهات عديدة على عدم المساس بمكانته، وعندما كان معتقلا كانت هناك فرق أمنية تسهر على حمايته، وكذلك عندنا أطلق سراحه وبقي تحت الإقامة الجبرية، ولم تحتلّ عملية محاكمته أو النيل منه أولوية، وأصبح الآن ولي دم لحكم العرف الاجتماعي السائد بعد مصرع والده وعدد من إخوته، وهو ما منحه حق الثأر بدلا من الانتقام منه كباقي أفراد أسرته.
والأدهى أنه استثمر سرا في النزاعات والتوترات بين قوى دخلت معارك شديدة على الحكم، واكتفى بالصمت، والذي فهمته أطراف في قلب الصراع على أنه تأييد ضمني لها. الأمر الذي وفر له مساحة كبيرة للحركة على مستويات داخلية وخارجية، مستفيدا من معالم الورطة التي تتصاعد كلما بدا أنها أوشكت على الهدوء، ومستثمرا في “النوستالجيا” أو الحنين إلى الماضي الذي ظهر متأخرا في ليبيا، حيث أفضى الانسداد في المشهد العام إلى نقمة شريحة كبيرة على من يتصدرون هذا المشهد، فلم يستطع أي من حفتر والسراج حسم الموقف لصالحه سياسيا أو عسكريا، وهو ما يزعج الآن بعض القوى التي اعتقدت أن النصر قريب من الفريق الذي تؤيده.
يبدو أن الوصول إلى هذه النقطة دفع بعض الأطراف الوازنة في الأزمة الليبية للتفتيش في الدفاتر القديمة أملا في ترجيح كفة المشير حفتر، بعد أن وجدوا أن معركة تحرير طرابلس باتت أصعب مما ذهبت إليه التقديرات العسكرية الأولية، وتحتاج إلى عناصر محلية داعمة، تعرف خبايا ودهاليز الدولة وتملك معلومات كافية عن آليات إدارتها وسبل تخطي العقبات المتراكمة، وتحظى بقبول يمنح التحركات التي قد تقدم عليها المؤسسة العسكرية تأييدا أكبر، ونم رفع الفيتو الذي وضعه عليه بعض المحسوبين على نظام القذافي، لثارات قديمة تعود إلى نحو ثلاثة عقود.
يعتمد الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر على قيادات وكوادر متعددة تربّت في كنف النظام السابق، ومن الممكن أن تتسع هذه القاعدة إذا جرى قطع مسافات جديدة لتجسير الهوة، وتصبح في النهاية حاسمة سياسيا وعسكريا في مواجهة الضفة المناهضة ويقودها السراج، والتي بدأت تتسارع وتتزايد وتيرة المساعدات العسكرية لها من قبل تركيا، ما ساهم في استعادة الكتائب المسلحة والمتطرفين والإرهابيين لجزء من عافيتهم، عقب النصر المعنوي والمادي الذي حققته في معركة استرداد غريان من قبضة الجيش الليبي.
لم تعد عملية الحصول على الأسلحة والمعدّات العسكرية صعبة على الفريقين، لكن الصعوبة الحقيقية تكمنُ في العثور على من يجيدون استخدامها وتوظيفها، ومن يستطيعون تهيئة البيئة المحلية لتسهيل مرورها في المناطق المختلفة، ويستفيدون من البنية الاجتماعية التي يمكنها ضمان عوامل النصر والانكسار في مناطق معقدة، ليس فيها مكان الآن للاستقلال وعدم الانحياز. وسوف يتحول أنصار النظام السابق بكل ما يحملونه من تشابكات لتيار قوي بإمكانه المساهمة في تسريع مهمة المشير حفتر، إذا تمّ تجاوز الخلافات والحساسيات وتصفية الرواسب، والتوصل إلى صيغة عادلة تقلب التوازنات الراهنة على رأس حكومة الوفاق.
يفضي نجاح ترميم العلاقة إلى ضبط الكثير من المعالم المختلة، ويمكّن الجيش الليبي من تحقيق التفوق المنتظر في معركة طرابلس، التي تصاعد فيها غضب المواطنين مما تقوم به العصابات المسلحة بالتعاون مع الإرهابيين والمتشددين التي توفر لهم حكومة الوفاق غطاء سياسيا وموردا اقتصاديا حال دون القضاء عليهم تماما، فالنظام القديم له حضور قوي في العاصمة وغيرها من المدن القريبة منها، بما يساهم في سد الثغرات التي أدت إلى خلق عثرات أمام الجيش الليبي.
يحتاج تفعيل ورقة النظام القديم إلى تذويب الفجوة بين عناصره، بعد أن أدّت إلى وجود كثيرين يتحدثون باسمه في مؤتمرات معلنة وأخرى غير معلنة، ما تسبب في تشويه دوره، والإيحاء بأن التباين أكبر من أي جهود للتوافق والتفاهم. لقد حان الوقت لخروج هذه الورقة من الأدراج، لحسم معركة سياسية طال أمدها أكثر مما يجب، لأن من غضوا الطرف طويلا عن التطورات العسكرية قد يضطرون للتخلّي عن حذرهم وصمتهم، وتدخل الأزمة مرحلة أشدّ تعقيدا تصل إلى تهديد وحدة الدولة الليبية، وهو الخيار الذي يرتاح له الإرهابيون والقوى التي تقف خلفهم.