محمد أبوالفضل يكتب:

غرام المصريين ونفورهم من تجربة الربيع العربي في تونس

فتحت وفاة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي الباب لحوارات جانبية في دول عربية عديدة حول تجربة الربيع العربي في تونس. لكن تظل مصر الأكثر إمعانا في تفاصيلها. وتزايد الانخراط في المناقشات حولها عقب إعلان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام على روح قائد السبسي. وجرى تحميل الخطوة على أنها أكبر من فكرة التضامن مع الشعب التونسي في صدمته، إلى التعبير عن الإعجاب الخفي بدور الفقيد في العبور ببلاده إلى بر الأمان.

إذا كانت الرئاسة المصرية أعربت عن حزنها على الراحل بطريقتها، فعلى مستوى النخب السياسية والثقافية دارت حروب كلامية تتعلق بجوهر المسيرة التي قادها الرئيس التونسي وجعلت بلاده نموذجا لا يُخشى عليه من الصدام في المستقبل، لأن الرجل وضع اللبنات الأساسية التي يمضي عليها من سيأتون لاحقا، وتمكن من تصحيح الأخطاء التي ارتكبت في السنوات الأولى للثورة في عهد سلفه المنصف المرزوقي، وكادت تؤثر سلبا على نضج التجربة برمتها، وتجرها إلى دوائر فشل وتعثر مرت بها دول عربية أخرى.

يدور الانقسام في القاهرة بين فريقين، أحدهما معجب بالدور الكبير الذي لعبه قائد السبسي من خلال قدرته على صهر جميع القوى الحية وهضمها في نموذج مدني لم يستثن منه حزبا أو جماعة سياسية قبلت التعامل بقواعد اللعبة وفقا للدستور، ولم تظهر رفضا أو ممانعة، وساعدت خبراته السياسية الطويلة في القفز على الصراعات والخلافات التي حاول البعض تفجيرها، من التيار المدني أو الإسلامي.

يثمن هذا الفريق الدور الذي قام به قائد السبسي في الحفاظ على استمرار بقاء المؤسسة العسكرية خارج الحلبة السياسية. ومع أن تونس واجهت، ولا تزال، تحديات أمنية كبيرة، غير أن الجيش وجهاز الشرطة بقيا بعيدين عن ممارسة أي دور سياسي، وحافظا على أداء مهمتهما التاريخية باحترافية مهنية، ووقفا تقريبا على مسافة واحدة من القوى المختلفة، الأمر الذي أثار غضب عناصر في التيار الإسلامي بتونس تبدي تعاطفا مع متشددين ارتكبوا جرائم يعاقب عليها القانون، وتعامل معها الجيش بمقتضى حسابات أمنية بحتة ولا علاقة لها بتقديرات حزبية.

هذا واحد من المطالب التي كان يتمنى أنصار هذا الفريق حدوثها في مصر، لأن تدخلات الأجهزة الأمنية تصاعدت وتيرتها بصورة تكاد تسيطر على مفاتيح الحل والعقد، وتدير الحياة السياسية بطريقة أفضت إلى تفريغها من القوى الحقيقية في البرلمان والشارع والأحزاب، وتعليبها داخل قوالب نمطية. ولذلك صبت حصيلة ثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 في صالح غلبة الدور الذي تقوم به المؤسسة العسكرية في قلب الحياة المدنية بمصر.

دغدغت تجربة الربيع العربي بقيادة قائد السبسي مشاعر قطاع عريض في مصر، وتمنى مؤيدوها أن يسير الرئيس عبدالفتاح السيسي على خطى نظيره التونسي، غير أن الخلفية، العسكرية والمدنية، التي جاءا منها ساهمت في تغليب انحياز كليهما إلى طريق مختلف، وحددت التصورات التي تتحكم في المنهج الذي تمت صياغته بدقة. وفرضت البيئة المحلية والظروف الخارجية وطبيعة الأولويات الإستراتيجية نفسها على التوجهات التي تبناها كل رجل.

من هذه الزاوية، يضع أنصار الفريق الثاني في مصر يده على جوهر التحفظ على النتائج التي وصلت إليها التجربة التي قادها الرئيس قائد السبسي. فإذا كانت مصر بدت مثل تونس عقب اندلاع شرارة الثورة وسارت على خطاها في المقدمات والبدايات، فإن النهايات من المنطقي ألا تكون واحدة، لأن بعض التطورات المصرية أحدثت صداها في تونس بخصوص الخطاب السياسي الذي تبناه التيار الإسلامي، وهو ما جعل تجربة قائد السبسي أقل صعوبة من تجربة السيسي.

كانت الهبة الشعبية في 30 يونيو 2013 التي عزلت الرئيس الإخواني محمد مرسي، بمساعدة الجيش المصري، نقطة تحول في أداء حركة النهضة الإسلامية في تونس وتخفيف رعونتها، واتخذت جملة من الخطوات عبرت عن استيعاب خطايا ودروس تجربة الإخوان في مصر، بصورة ساعدت على تليين مواقفها، والقبول بالقواعد السياسية التي أرساها قائد السبسي، ومن حظه أنه جاء لقيادة الدولة في أجواء كانت فيها النهضة متأثرة بانكسارات الإخوان في مصر.

لم تقلل هذه المسألة من حنكة ورشاد قائد السبسي في تبني رؤية واقعية، لم تنجرف وراء إغراءات الإقصاء والعزل والمطاردة للتيار الإسلامي، ليتجنب المزيد من التصعيد السياسي والأمني، وابتعد عن التمادي في فكرة الهيمنة لصالح التيار المدني، وقدم نموذجا سلسا يمكن أن يجد أفقا لمواصلة النجاح، مستفيدا من التجربة المصرية القاسية ورفض تحمل تكاليف أمنية مماثلة لها، انطلاقا من وعيه بحجم تجذر الإسلاميين في المجتمع التونسي.

في هذا السياق، يعتقد أنصار الفريق الثاني في مصر أن الرئيس التونسي الراحل ترك إرثا ثقيلا قد تظهر تداعيات قاتمة له مستقبلا، وربما مع الرئيس التالي له مباشرة، لأن قوة التيار الإسلامي تنامت، ونجح في توظيف مساحة الحرية المرتفعة لصالحه، بينما تنخرط القوى المدنية التونسية في خلافاتها السياسية. وأغرته المكاسب الناعمة التي حققها خلال سنوات حكم قائد السبسي في الحفاظ عليها، من خلال السعي للسيطرة على مقاليد الأمور في المجالس البلدية والبرلمان، وعدم الاستعجال في الوصول إلى كرسي رئيس الجمهورية، لعدم تكرار أخطاء الإخوان في مصر.

من حسن حظ تونس أن لديها أحزابا سياسية قوية وتجمعات مهنية ونقابية وعمالية مؤثرة. وهذه من الفروق الرئيسية بينها والقاهرة، والتي تمكنها من خوض التجربة التي أرساها قائد السبسي حتى نهايتها بلا خوف أو قلق على مصيرها.

وقوضت الحكومة المصرية التيار الإسلامي ليس فقط لأنه يملك أجندة تنطلق من رؤى ما قبل الدولة الوطنية، لكن لأن القوى السياسية المدنية المنافسة ضعيفة وربما غائبة، ما يمنح الأول فرصة للتمدد والتغول، وتزايد شهوة الوصول إلى أعلى قمة في هرم السلطة.

تمتلك فئة من أنصار الفريق الثاني قناعة بأن قوة التيار الإسلامي في تونس تمثل تهديدا غير مباشر لمصالح القيادة المصرية. حيث يدلل صموده على وجود خلل في الخطاب السياسي الذي تتبناه القاهرة التي تضع المحسوبين عليه في سلة واحدة، وهي سلة التطرف والإرهاب، استمدتها من نتائج التعامل معه بوسائل مختلفة، والعنف الذي طغى على تصرفات الكثير من التنظيمات المنبثقة عنه.

كما أن تفوق التجربة التونسية يعزز تجارب الإسلاميين المتفوقة في كل من المغرب والجزائر، ويفتح نافذة للأمل أمام إسلاميي ليبيا ويضخ في عروقهم دماء جديدة، ويعزز رغبة إسلاميي السودان في استعادة السلطة مرة ثانية بعد عزل الرئيس عمر حسن البشير، ويقوي عزيمة حركة حماس في قطاع غزة الفلسطيني.

ومن غير المستبعد أن تفرض هذه المعطيات على القاهرة التخلي عن سياساتها الراهنة في التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين أو إعادة النظر فيها، حيث تمارس الجماعة ضغوطا متتالية على الحكومة المصرية عبر أذرعها السياسية والإعلامية في الخارج.

تجد مصر نفسها محاصرة بمحيط واسع من الإسلاميين في معادلة إقليمية ترى من الضروري رجحان كفتها الأمنية والسياسية فيها. وهي بالفعل حققت تقدما كبيرا على المستوى الأول، بينما لا يزال المستوى السياسي متأرجحا، لأن جزءا من مفاصله في أيدي قوى على مرمى بصر من الأراضي المصرية.

تتمنى القاهرة أن يحقق التيار المدني نصرا كاسحا في انتخابات رئاسة الجمهورية والبرلمان في تونس، لأن تفوق حركة النهضة ونجاح تربيطاتها السياسية مع جهات علمانية سوف يضاعفان جراح مصر في المنطقة، ويفرضان عليها تليين مواقفها وتغيير خياراتها، خاصة أن الدولة -ومؤسساتها- استردت عافيتها الأمنية وقطعت شوطا على صعيد الإصلاحات الاقتصادية، وينقصها سد الفراغات السياسية، التي حسبت القوى المؤيدة لثورات الربيع العربي أنها قادرة على ملئها. من هنا يأتي غرام المصريين ونفورهم من تجربة الرئيس التونسي قائد السبسي.