محمد أبوالفضل يكتب:

انتهاء موسم الزيارات العربية للقدس المحتلة

تستند الزيارات التي تقوم بها شخصيات عربية للقدس على أنها مساندة خالصة للفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال الإسرائيلي. ويرد هؤلاء دوما بأنهم لا يريدون سياسيين ومثقفين وإعلاميين عربا للتضامن الشكلي معهم وعلى مقربة من منازلهم، ومرحب فقط بمن يأتون غاضبين وفاتحين، في إشارة إلى تفضيل الأدوات الخشنة للتضامن على الناعمة.

فجرت زيارة دعائية قام بها مؤخرا وفد من شخصيات عربية تنتمي لدول مختلفة، غير معروف أن لها علاقات سياسية رسمية مع إسرائيل، موجة من القلق في بعض الأوساط الفلسطينية، خشية أن تصبح مطية لأهداف خفية.

وجددت نقاشا قديما حول مواءمة هذه النوعية من الزيارات للتطورات الراهنة الصعبة، ومدى ما تحمله من مردودات سياسية لأصحاب القضية أنفسم الذين يرفض غالبيتهم التأييد المصحوب بـ”شو” أو ضجة تجني من ورائها إسرائيل مكاسب سياسية كبيرة من غير أن تزحزحها عن مخططاتها.

مع كل جولة عربية في الأراضي الواقعة تحت الاحتلال يتكرر مشهد الانقسام بين الفلسطينيين. فالبعض يرى أنها مهمة في الشد من عزيمتهم وفضح إسرائيل، بينما يعتبرها آخرون تخليا عن مسمار التطبيع الذي يملكه العرب في مواجهتها، ويثبت أنها منبوذة في المنطقة، وبالتالي كيف سيتم هضمها أو استيعابها في مشروعات إقليمية وهي مرفوضة من الجهات المحيطة بها؟

يريد الفلسطينيون تكريس هذه الفكرة لمحاربة ما يمكن وصفه بـ”الليونة” العربية الزائدة وغير المبررة، التي أدت إلى تضخم إسرائيل، وأضفت عليها معالم جديدة للقوة المعنوية في المنطقة، حولتها إلى كيان جاذب بعد أن كانت ملفوظة لعقود طويلة.

وشجعت هذه الحالة دوائر أميركية على صياغة منظومة متناثرة من الأفكار الخيالية، قيل إنها تنطوي على صفقة سياسية سوف تخرج الشرق الأوسط من أسر القضية الفلسطينية، وتقدم حلولا عملية للمعوقات التي وقفت حائلا في طريق تسويتها، لكنها فارغة من المقومات الدولية التي حكمت من حاولوا الاقتراب منها.

بصرف النظر عن حجة ومنطق كل فريق، فإن اختيار زمن الزيارة أصلا كان خاطئا، وجرى توظيفه بعناية من قبل بعض وسائل الإعلام في إسرائيل لتأكيد أن ثمة عربا يخطبون ودها ويتقربون لها ويتجاهلون ما تمارسه قواتها من جرائم، وفي تحد سافر تمادت في الانتهاكات التي تقوم بها ضد سكان القدس أخيرا، وتستعد للقيام بعملية تهجير كبيرة وهدم أعداد جديدة من البيوت الفلسطينية لمحو الآثار التاريخية نهائيا، وتجاوزها لتعبيد الطريق أمام الحل الأميركي المعروف بـ”صفقة القرن”.

لذلك كان ممنوعا على الزائرين العرب ترجلهم بحرية كاملة في باحة مسجد قبة الصخرة، وقام فلسطينيون بالتعبير عن امتعاضهم منهم بالبصق والحجارة، لأن الجولة تعكس تعاطفا مع الإسرائيليين وتجاهلا لمعاناة المواطنين مع الاحتلال، وليس تضامنا حقيقيا معهم. فهناك طرق عديدة للدعم من الممكن تبنيها وقد تكون لها نتائج كبيرة، لأن فكرة الجولات السياحية المجانية تجعل المحتل يمعن في غيه، وتسقط ورقة التوت الأخيرة من أيدي الفلسطينيين الذين يصممون حتى الآن على التمسك بعدم هدم جدار التطبيع.

يفسر احتفاء المسؤولين في إسرائيل بكل لقاء يجري مع أي شخصية عربية، حتى ولو كان لدواع دبلوماسية دولية، رغبتهم في استثمار هذه الورقة ومحاولة تفريغها من مضامينها السياسية. وهو ما فرض على الدول العربية التي يحمل جنسيتها هؤلاء التنصل من الزيارة وأصحابها ومراميها.

يعكس الرفض والاحتفاء والتنصل حال العلاقات العربية الإسرائيلية، ويشير إلى أن الخسائر التي تكبدتها القضية الفلسطينية لم تؤثر على مرتكزاتها السياسية، والرهان مستمر على أن المقاطعة سلاح سوف يحرز أهدافا تفوق ما يمكن تسجيله مؤقتا بالجولات السياحية.

درج ساسة إسرائيل على تحميل اللقاءات التي يتم ترتيبها أو تحدث صدفة في أماكن مختلفة معاني كبيرة، بقصد التأكيد أنها رقم أساسي في المنطقة، ويتم قبول التعامل معها كما هي ودون اعتداد بالتصرفات الإجرامية التي تقدم عليها، ولا حاجة لشهادات حية عنها حول الداخل الفلسطيني من الزائرين العرب. وإذا استشعرت أن ذلك يمثل خطرا عليها سترفضه صراحة، ما يعزز من فكرة عدم استساغتها أصلا التطبيع بالزيارات، وانتقاء من يقومون بجولاتهم في القدس أو غيرها بعناية وفي توقيتات معينة. يعيدنا مشهد دعم ومؤازرة الفلسطينيين بالذهاب إليهم في الأراضي المحتلة إلى مشاهد مصرية بائسة، جرت معظم تفاصيلها في عقد التسعينات من القرن الماضي، عندما تصاعدت موجة البحث عن السلام معها، عقب مؤتمر مدريد الذي عقد في أكتوبر 1991، وتصورت جماعة من السياسيين والمثقفين والصحافيين أن هناك فرصة لاختراق إسرائيل وتليين مواقفها، عبر استمالة ما يسمى بتيار اليسار المؤيد للتسوية السياسية على أساس حل الدولتين.

منح هذا التصور فرصة لتبرير اجتماعات مصريين مع إسرائيليين في أماكن متفرقة، وأمعن أصحابه في تسويقه باختراع تشجيع زيارة الأراضي المحتلة لكسر الحواجز النفسية وتأييد الفلسطينيين، لكن فشلت الحيل المتباينة ولم تفض إلى الحصول على ثمار سياسية واضحة، وبات أصحاب هذا التيار غير مرحب بهم وسقطوا في فخاخ إسرائيل المتتالية.

وثمة فئة كبيرة من الفلسطينيين ضجت من المتاجرة العربية بقضيتهم فتوقف هؤلاء عن منهجهم وتحركاتهم، وشعروا أن إسرائيل لن تقبل بتدفق أعداد كبيرة بذريعة مساندتهم وفضح أساليب الاحتلال القذرة، وقد توافق على زيارات رمزية عندما تجد أنها تصب في صالح تبييض وجهها فقط.

وفرت ضجة محبي السلام أو مؤيدي التطبيع مع إسرائيل فرصة لاختبار إرادة وعزيمة المصريين، حيث جاءت ردود الفعل رافضة لكل أنواعه، وتبنت النقابات المهنية موقفا رائدا وصارما لم يسقط حتى الآن، ولا تزال تحافظ على التمسك به، ولا تبالي بحجم السيولة والمرونة الرسمية التي حدثت في التعامل مع إسرائيل. ولم تنل محاولات التطبيع السياحي-السياسي من الثوابت الوطنية، وأكدت ضرورة الفصل بين المسارات الشعبية والرسمية.

مضت سنوات طويلة على أنصار هذا التيار وسقطت موانع على جانبي الطريق، ولم يتغير شيء في مسيرة القضية الفلسطينية. والتغير الوحيد يتعلق باتساع نطاق التدهور، ونجاح إسرائيل في القبض على زمام الأمور في ملفات عدة. كما أن فريق التطبيع الأول لا يتذكر أفراده أحد بخير الآن. فقد تم استخدامهم كأدوات لجرح المقاطعة ومحاولة تصفيتها، لأنها كانت مؤلمة في وقتها. بعد تدفق الكثير من المياه في نهر العلاقات مع إسرائيل، لم تعد الأخيرة بحاجة للعزف على وتر مخاطر المقاطعة أو تظهر حاجتها للتطبيع. حيث تزايدت الهرولة العربية، سرا وعلانية، وأصبحت حكومتها تقاوم بعنف زيارة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة لأسباب سياسية ودينية وإنسانية، لأنها تمنحهم مشروعية تسعى بكل الأساليب نحو نزعها عنهم، وترى أن الأجواء الإقليمية مواتية أمامها لتصفية القضية الأم، ولا تريد تذكير العالم بأن هناك شعبا يقبع تحت الاحتلال، وبالتالي من المنطقي أن ينتهي مفعول الزيارات العربية للقدس وغيرها من الأراضي الفلسطينية المحتلة.