محمد أبوالفضل يكتب:

تحديات تواجه كامب ديفيد الثانية

كشفت جولة شرق أوسطية لجاريد كوشنر المستشار السياسي للرئيس الأميركي دونالد ترامب، مؤخرا، عن رغبة حثيثة لدى واشنطن للمضي قدما في عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين بالطريقة التي ترتضيها. وحاول كوشنر توصيل رسائل طمأنة للقادة العرب الذين التقاهم خلال جولته التي شملت الأردن ومصر والمغرب والسعودية والإمارات، (بالإضافة إلى إسرائيل) زاعما أن “صفقة القرن” تحمل جوانب إيجابية واعدة للشعب الفلسطيني.

وأشارت وسائل إعلام إسرائيلية إلى أن كوشنر حمل معه اقتراحا بعقد قمة للسلام في كامب ديفيد منتصف سبتمبر المقبل، للتأكيد على الرغبة الأميركية في التوصل إلى تسوية سياسية جادة للقضية الفلسطينية، بما يعيد التذكير بالاتفاق التاريخي في 17 سبتمبر 1978 في كامب ديفيد ذاتها، وعلى إثره جرى توقيع اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل في مارس من العام التالي، أنهى ظاهريا الصراع بينهما، وخلّف وراءه تداعيات غيّرت موازين القوى في المنطقة.

كما نجح الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر في إدخال تحول مفصلي على الصراع العربي- الإسرائيلي وإخراج القاهرة من معادلته الاستراتيجية المباشرة، يريد ترامب تغيير النمط الإقليمي في التعامل مع القضية الفلسطينية وتصفيتها وإخراجها من رزمة التعامل مع إسرائيل، وبدلا من أن يصبح هذا الملف أداة للتناحر يمكن أن يكون مدخلا للتعاون والتنسيق.

دخلت خطة ترامب، المعروفة بـ”صفقة القرن” في مشكلات عديدة قبل أن تولد، وواجهت عثرات كثيرة، وضرب لإعلانها مواعيد مختلفة، مستندة إلى مقتضيات الأمر الواقع، حيث تتفوق إسرائيل في موازين القوى على الدول العربية.

وغلب عليها الاستعجال ولم تأخذ في الحسبان العراقيل التي يمكن أن تواجهها في المنطقة، وحسب رعاتها يمكن أن يكون الضعف العربي أداة تُجبر الفلسطينيين على القبول بتسوية مبتورة لقضيتهم. ولم يأخذ كوشنر ورفاقه في تقديراتهم أن قوة الشعب الفلسطيني تكمن في ضعفه، وهو ما لعب عليه الرئيس محمود عباس (أبومازن)، واستفاد منه كثيرا في جذب تعاطف واسع في الأراضي الفلسطينية وخارجها غطّى أحيانا على أخطائه السياسية.

إذا كانت خطة ترامب استندت على مجموعة من الاعتبارات السياسية والاقتصادية والجغرافية والاجتماعية، فإنها تجاهلت الطبيعة الفلسطينية والعربية التي على استعداد للتضحية بأشياء كثيرة في لحظة معينة وعند حضور الضغط الجماهيري والسياسي الخفي، قبل أن تقبل بالصلف الأميركي والإسرائيلي، وقد تكون حالة الضعف أغرت واشنطن لطرح خطتها تدريجيا، لكن من رحم هذا الضعف ربما تولد قوة.

تجاهل ترامب أن كامب ديفيد الأولى، جاءت عقب انتصار مصر عسكريا على إسرائيل في حرب 6 أكتوبر 1973، وسبقتها ترتيبات مضنية حول فك الاشتباك بين الجانبين، ثم زيارة جريئة للرئيس المصري أنور السادات للكنيست في القدس المحتلة عام 1977، أحدثت صدمة معنوية عنيفة لدى الرأي العام، ومفاوضات في القاهرة أدت إلى ابتعاد ثم عزل مصر عن محيطها العربي، حتى وجد السادات نفسه وحيدا عندما أخفق في وضع الفلسطينيين على طاولة واحدة مع الإسرائيليين في فندق ميناهاوس بالقاهرة. وهذه رواية طويلة بحاجة إلى مناقشة مستفيضة في مقال آخر.

المهم، كانت هناك عملية مرتبة لتهيئة الأجواء سياسيا، ومقدمات مثيرة، وأخذ ورد، ومباحثات ومحادثات ومناقشات جادة، وامتلكت الإدارة الأميركية في ذلك الوقت رغبة وإرادة وعزيمة ليكون الطريق ممهدا لكامب ديفيد، ولم تأت هذه المحطة عشوائية، بل احتلت مكانة في تفكير الدولة الراعية، ولأنها مثلت اختراقا صادما وحقيقيا ونوعيا لقيت ردود أفعال متباينة، وفي النهاية وضعت لبنة أساسية لجذور التسوية والقبول بإسرائيل وفقا لمحددات مرسومة بدقة.

كما أدت إلى فتح الطريق لمن جاؤوا بعد كارتر للحديث بجرأة عن السلام مع إسرائيل، بدءا من مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991، حتى صفقة القرن في الوقت الراهن، ومرورا باتفاقيات أوسلو ووادي عربة. وأفضت هذه المحطات إلى زيادة التشرذم الفلسطيني، بدلا من تقوية الوحدة الوطنية، سلما أو حربا، بما شجع إسرائيل للحصول على ما تريده دون تضحيات أو تنازلات، وتنصلت من تقديم الضريبة المستحقة لأي تسوية سياسية في مثل هذه الظروف.

يتفق الكثير من المراقبين على أن كامب ديفيد الأولى محطة مهمة في تاريخ الصراع، وما تلاها من خلافات عربية وفلسطينية جاءت نتيجة طبيعة لتوقيعها، وجنت ثمارها إسرائيل، وتريد الولايات المتحدة عملية سياسية مريحة تفتح المجال لبدء مرحلة تغلق الباب أمام الصراع العربي الإسرائيلي من خلال جملة من الحوافز الاقتصادية والتنموية، تذوب في تفاصيلها القضية الفلسطينية، مستفيدة من تصاعد الانقسام بين أطرافها الرئيسية الداخلية، وانهماك دول عربية كثيرة في مشكلات إقليمية ممتدة، قد يكون الانخراط في التعاون مع إسرائيل إحدى وسائل حل البعض من ألغازها.

لذلك تجاهل الطرح الجديد منذ البداية الجانب الفلسطيني، ولم يبذل القائمون عليه جهدا كبيرا لجذب السلطة الوطنية إليه، وربما وجدوا فرصة في تحدي الرئيس أبومازن للتحركات الأميركية على أمل أن يتم تقويض سلطته عبر تكريس الصراع المحتدم مع حركة حماس المسيطرة على قطاع غزة، وإيجاد المبررات لتمرير خطوات مؤثرة، مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، والتي يمكن الاعتماد عليها لتقديم حلول مبتورة مع الغياب المادي لرأس السلطة الفلسطينية الذي خالف التوقعات وتخلى عن براغماتيته السياسية هذه المرة.

وجدت واشنطن مصدات كثيرة في الطريق، ولم تتلق الاستجابة العربية المتوقعة، وافتقدت للتأييد الذي يمنحها الحشد السياسي اللازم، وكأن كل دولة لا تريد تحمل مسؤولية الحديث نيابة عن الفلسطينيين أو المشاركة في ترتيبات على حسابهم، ووجد البعض في غيابهم عن مباحثات “صفقة القرن” بشقها الاقتصادي في ورشة المنامة مدخلا لتخفيف الانخراط في خطواتها التالية، فإذا كان أصحاب القضية غير راغبين فيها، فلن يستطيع أحد فرض شروطه عليهم، وبدا كأن هناك ارتياحا للغياب الفلسطيني، تحوّل إلى قاعدة يتكئ عليها بعض القادة العرب لتفسير ممانعاتهم للصفقة.

حملت جولة كوشنر رغبة أميركية عارمة بشأن ممارسة ضغوط على السلطة الفلسطينية لإقناع الرئيس أبومازن بالذهاب إلى كامب ديفيد، وهو ما جعل مصر تشدد على أهمية التسوية على أساس حل الدولتين والالتزام بدولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، للابتعاد عن وضعها في أسطوانة التواطؤ ضد المصالح الفلسطينية. وجاءت غالبية الردود السياسية العربية المباشرة وغير المباشرة في الاتجاه ذاته.

يشعر الاتجاه العربي العام أن واشنطن مصممة على وضع العربة أمام الحصان في جميع الخطوات التي قامت بها حيال “صفقة القرن” ما أجهضها مبكرا، وما لم تضبط الحركة السياسية عامة، وتضع الحصان في المقدمة ستتوالى الإخفاقات التي تلازم صفقة لم تفلح في إغراء الفلسطينيين على دخولها بقاعدة “خذ وطالب”.

وتلعب بعض الدول العربية على استنزاف الوقت لتفشيلها عمليا، ولا ترى ضرورة في مواجهتها علانية لتجنب الدخول في صدام مع الإدارة الأميركية في وقت تتقاطع فيه مع بعض القضايا الإقليمية الحيوية، وهي مسألة مغرية ومخيفة في الوقت نفسه.

يدخل ترامب سباق انتخابات الرئاسة الأميركية بعد بضعة أشهر، ويستعد بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل لانتخابات الكنيست في سبتمبر المقبل، وينشغل كلاهما في همومه، ولن يجدا الوقت الكافي لمناقشة تفاصيل صفقة القرن باستفاضة على الطاولة، من هنا سينحصر هدف القمة المنتظرة في كامب ديفيد في جانبها الدعائي، والإيحاء أن ترامب لم يفشل والعملية السياسية مستمرة، والترويج إلى أن هناك أفقا لحل القضية الفلسطينية بالطريقة المريحة لإسرائيل، ونسف للأمل في تكوين دولة فلسطينية.

تلك رسالة رئيسية تريدها واشنطن من وراء عقد أي قمة لها علاقة بالفلسطينيين، يستفيد منها ترامب ونتنياهو، وتتزايد الشقوق في الأوساط العربية كي تنتهي الثوابت التي تقوم عليها القضية الفلسطينية، كهدف استراتيجي تسعى إليه واشنطن لتدشين المرحلة الجديدة في المنطقة الخالية من الرموز المركزية القديمة، بما يساهم في الخروج بحلول في قضايا أخرى لا تلتزم بالقواعد التاريخية.

ولم تعد الظروف مهيأة لتقسيمات نمطية على طريقة سايكس بيكو، لكن تذويب وإخفاء الملفات الجوهرية يصلح ليكون مقدمة لاتفاقيات منقوصة، على غرار ما تحمله “صفقة القرن” من مكونات لا علاقة لها بما سبق من مساومات وصفقات. وهو تحد كبير أمام الدول العربية، حتى لا تصبح كامب ديفيد الثانية نواة لتغيير وجه المنطقة بطريقة تصب فقط في صالح إسرائيل، وتنهي الحديث مستقبلا عن الحقوق القانونية للشعب الفلسطيني.