وارد بدر السالم يكتب:
الفراغ الثقافي يعطل الذات ويقتلها
نتحدث عن الفراغ بوصفه زمنا ميتا من دون أن يكون لدينا تفسير واف عنه أو الوقوف على مسبباته، ولاسيما عندما نجتزئ منه ما يسمى بـ”الفراغ الثقافي” محورا نطالعه بأهمية. فالفراغ الذي نشكو منه ظاهريا هو مجرد وقت ضائع وسائب. ساعاته تمر بطيئة وثقيلة ومشوشة.
وعندما يعجز العقل عن التفكير الإيجابي فإن احتمالات التمرّد العبثي ممكنة جدا، فيتحوّل الفراغ إلى حالة سلبية، عندها يمكن أن نقول إن الفراغ الثقافي هو جزءٌ من تعطيل الذات وقتلها. وهو العامل المساعد في انتشار الجهل وعدم الضبط الاجتماعي وشيوع الجريمة والمحرمات المتعددة التي تكسر روح المجتمع في أي مكان.
إذا كان الفراغ بالمفهوم الفيزيائي حيزا من الفضاء فارغا من المادة؛ فإن الفراغ الثقافي كمكان اعتباري يُعد أيضا فارغا من المحتوى والمضمون، سوى من شكل مطاطي اعتدنا عليه بوجود فراغات فيزيا- ثقافية لا تستطيع أن تضمن صيرورة الحياة من جانبها المعرفي، ما دام الفرد المعطّل مُنحصرا في زاوية سلبية من الحياة وغير مُوجّه فكريا ومعرفيا، والفرد هو جزء من التشكيل المجتمعي العام الذي تسري فيه الروح ذاتها، وبالتالي فإن الفراغ الثقافي وعندما يكون مهيمنا اجتماعيا تكون هناك مشكلات نفسية عامة تخلق الكثير من فرص التمرد وخرق النظام العام وهيكليته الشخصية.
نقرأ؛ على سبيل الفيزياء؛ أنه عندما يكون الفراغ الكوني مكانا خاليا من أي مادة وواجبه حماية الكون كله من أي انفصال، فإنّ الفراغ الثقافي كمكان؛ والذي لم تُملأ ذاكرته بمزايا معرفية صحيحة، أو تُرك لأسباب الجهل وتفشي سلطة جاهلة وفاسدة؛ سيقود إلى الانفصال التدريجي من نسيج المجتمع ويؤدي إلى مخاطر جمّة وانفصالات مؤكدة، فالثقافة هي الحضارة الشخصية للمجتمعات على أيّ حال.
لذلك وعلى مدى قرون طويلة ناقش الفلاسفة موضوعة الفراغ من الجوانب كلها، حتى قال سبينوزا “الطبيعة ترتعب من الفراغ”، وهذا يعني أن الفراغ الهائل الذي يحيط بنا يحتاج إلى عقول كبيرة تستفيد من هذه الكتل الشاسعة في الكون وتملأه بالطاقات الخلاقة والتوصيفات الجمالية التي تستفيد منها الإنسانية، لكننا معنيون بالمعنى الثقافي على قدر مباشر؛ وهذا يحيلنا إلى أكثر من معنى وتأويل في ما نحن بصدده من معاينة مباشرة لمشكلات الفراغ الثقافي الذي نعاني منه كمجموعات اجتماعية لنا إرث وحضارة وثقافة ومعارف وعلوم كثيرة.
لنبسّط الأمر إلى أن فقدان الشروط الإنسانية بشكل عام هي التي تولّد مثل هذا الفراغ؛ فلا يوجد شعب (مثقف) على الكرة الأرضية يمتهن الجريمة والفساد وتتسيّد عليه ميليشيات خارجة عن القانون ويعيش تحت خط الفقر وتتكاثر في أوصاله الأمراض وتنتشر فيه أنواع الأسلحة أو تتحكم بمصائره العشائر الجاهلة.
وفي هذا الصدد يُعد العراق أنموذجا صريحا للفراغ الثقافي بمحصلة النتائج المستخلصة من الحالة العامة لتكون البلاد مفرّغة كليا من جانب حيوي هو الجانب الأخلاقي والإنساني والعلمي، مثلما يمكن أن تكون شعوب أخرى تعاني بسبب حاكم متسلط ودكتاتور مستبد، فمثل هذا الحاكم يشيع الفراغ الثقافي لأنه يوجّه الشعب إلى اتجاه واحد لا غيره تحت سلطة نافذة ووحشية، ويغلق منافذ الآخر حتى لا يطل عليها أحد.
مثلما تنتهك الحروب إنسانية البشر تحت أغطية وشعارات حزبية وسياسية مرحلية عند شعوب أخرى وجدت نفسها تقاتل حتى من دون أسباب ممكنة. لينشأ فراغ ثقافي عام تستوطنه الخرافات والأساطير الدينية والشعبية ليتجه إلى الخلف بعكس حركة الحياة الماضية إلى الأمام، وتغيب مكوّنات ثقافية أساسية في تنشئة الأجيال، وبالتالي علينا أن نفهم أن الفراغ الثقافي الذي نعاني منه هو فراغ نفسي خطير وليس معلوماتيا بالدرجة الأولى، بفقدان شروط إنسانية كثيرة، فلا القصيدة أو الرواية أو اللوحة قادرة على أن تملأ الحيّز الفيزيائي الجمالي الذي ندور حوله، ولا حتى المعرفة العامة يمكنها من أن تفعل هذا، لذلك فإنّ الجهل الذي يتّسع، يتّسع معه فراغ الثقافة والوعي والتحضّر.
وما انتشار مظاهر السلوك الفردي والجماعي في المجتمع، وانتشار الإرهاب على نطاق أوسع، والدعايات الدينية المتطرفة باسم الإسلام وحتى الهجرات العربية بعد ثورات الربيع، إلّا مظاهر مؤسفة من مظاهر غياب الفراغ الثقافي الذي يجعل الذات متشظية، والجماعة بلا شعور بالوطنية الاجتماعية والسلوكية.
ولهذا نجد أن المجتمعات التي تفتقد إلى الثقافة تفتقد شروط الإنسانية قطعا، فتحوّل الحياة إلى غابة وحشية على طريقة الذبح الإسلامي الداعشية سيئة الصيت. والفارغ من الثقافة ممارِس اجتماعي سلبي، خاصة إذا كان تحت راية سلطة ليس في نيتها الإصلاح الاقتصادي والسياسي.
هكذا الأمر في الحياة العامة والخاصة، لكنه يختلف نسبيا في الخيال الإبداعي عندما يعرف المؤلف كيف يملأ (فراغات) روايته أو قصيدته، ويجتهد الفنان في ملء لوحته بالألوان والأفكار، والموسيقار بألحانه ونغماته والراقصة بجسدها والمطرب بصوته.