محمد أبوالفضل يكتب:
سياسة سودانية توافقية وسط عواصف إقليمية
في المؤتمر الصحافي الذي عقده عبدالله حمدوك، رئيس الحكومة السودانية الخميس الماضي، كشف الرجل عن ملامح رئيسية في سياسة بلاده الخارجية، يدور معظمها حول أهمية التوافق والتوازن مع الدول كمحدّد يخدم مصلحة الشعب السوداني. وبدت هذه الإشارة منسجمة مع طريقة تفكير الرجل الهادئة والوسطية.
قد يصلح هذا التوجه في إدارة الملفات الداخلية، لكن من الصعوبة تطبيقه على المستوى الإقليمي الذي تتصارع فيه بعض الدول على كسب ود الخرطوم حاليا، ناهيك عن المستوى الدولي الذي يعجّ بتناقضات كبيرة تفرض على السودان توضيح مكان قدميه لتجنّب غرسهما في الوحل. كما أن الدول التي لديها تطلعات طموحة من الواجب أن تكون لها انحيازات جلية، على الأقل في عدد من العناوين الرئيسية في القضايا المحورية.
حاول حمدوك استثمار الدعم السياسي لحكومته والوعود الاقتصادية البرّاقة بمساندتها، والتي جاءت بعد فترة من الهيمنة العسكرية والإسلاموية على الحكم في السودان. وبعث برسالة تؤكد استقلاليته عن هؤلاء وهؤلاء، كشأن غالبية رؤساء الحكومات عند توليهم المسؤولية، حيث يفضلون الابتعاد عن الدخول في حسابات معقّدة مبكرا تضعهم ضمن هذا الفريق أو ذاك عند بدء مرحلة تتلمّس فيها الجهات المعنية الخطى للتعرّف على هوية السلطة الجديدة.
يعتقد البعض أن خطاب رئيس الحكومة مساء الخميس كان دبلوماسيا بامتياز، وقطع الطريق على التكهنات التي حسبته على طرف إقليمي دون آخر، وأمسك العصا من منتصفها. ربما يكون ذلك صحيحا على الصعيد النظري، غير أن التشابكات السياسية وذيولها في المنطقة لن تساعده على تحقيق هذا الهدف حتى لو نأى بنفسه وأراد اتباع تصورات مستقلة.
يقع السودان في إقليم يموج بالشدّ والجذب، وحافل بالقضايا المثيرة للجدل. وفي لحظة ما سيفرض عليه الاختيار بين خصمين أو نقيضين أو عدوّين لدودين، وفقا لما يصب في مصلحة المواطنين، فلا مجال لسياسة محايدة تماما في العالم اليوم.
يعاني هذا البلد من أزمة مريرة منذ فترة طويلة تتعلق بإشكالية وقف الحرب وجلب السلام. وتمنح السلطة الانتقالية الراهنة أولوية لتجاوز المفارقات السلبية في هذه المعادلة وبالطرق الرضائية مع الجبهة الثورية، كغطاء يضم الحركات المسلحة الرئيسية، ما يتطلب ضخ أموال طائلة لتضييق الفجوة بين المركز والأطراف، وإعادة تصويب البنية التحتية المهترئة في الأقاليم. علاوة على التخلص من أزمة الديون المتراكمة، وسد احتياجات المواطنين في كافة أنحاء البلاد وإنقاذ قطاع كبير منهم دخل منذ فترة شرنقة الفقر قسرا.
يتطلب ذلك علاقات سياسة متينة مع القوى الكبرى التي تتحكم في المؤسسات الدولية المانحة. ويستلزم بناء روابط جيّدة مع قوى إقليمية قادرة قولا وفعلا على المساهمة في دعم السودان.
وقد وعدت السعودية والإمارات بتقديم ثلاثة مليارات دولار كمساعدة أولى للبلاد. وأكدت غالبية التصريحات من قيادات في الدولتين الحرص على توفير الاحتياجات الضرورية. بالتالي من الطبيعي أن تنتهج الخرطوم سياسات لا تضر بـ أو تتصادم مع مصالح أي من هاتين الدولتين، ولا تقترب من جهات تعادي كلتيهما في المنطقة وتتبنى خطابا تحريضيا وتوفّر دعما ظاهرا وخفيا للكثير من القوى الظلامية.
وصلت السودان رسائل طمأنة من الولايات المتحدة مؤخرا حول رفع اسمه من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب قريبا، كبادرة على تعاف في السياسة الخارجية. وأهمية هذه المسألة تكمن في ما تؤدي إليه الخطوة من فتح مجالات كثيرة كانت موصدة أمام الاستثمار في السودان، وما تحمله من معان حالية لها دلالات سياسية مستقبلية، حيث اشترطت واشنطن احترام حقوق الإنسان، ومناهضة التنظيمات المتطرفة ومكافحة الإرهاب. الأمر الذي يتّسق مع توجهات السلطة الانتقالية.
يكفي الانسجام أو عدمه في هذه القضية للحكم على توجهات سودانية محددة في السياسة الخارجية. فالانحياز الواضح ضد فريق عريض من المتشددين والإرهابيين يعزز التنافر وعدم التكيّف مع الدول الداعمة له، وهي معروفة ولم تعد خافية. وكي يتمكن السودان من تطوير علاقته مع هذا الفريق يتحتّم عليه غض الطرف عن ممارساته العدائية والمنتشرة في دول قريبة، ما يقود إلى خسارة المساعدات المادية والوعود السخية من الفريق المقابل.
أصبح الانخراط في عمليات تقويض المتطرفين ومكافحة الإرهاب في المنطقة من العلامات البارزة في سياسات الكثير من الدول. فهل تستطيع السلطة الجديدة تجاهل تحوّل أراضي السودان في عهد النظام السابق إلى مركز إيواء للكثير من المتشددين؟ وهل بمقدورها استمرار فتح المنافذ لمرورهم إلى دول الجوار؟ وهل تتكاسل الحكومة في التعاون مع الدعوات المطالبة بسيادة السلام في المنطقة وإنهاء حقب طويلة من الأزمات المستعصية؟ وهل يحقق حمدوك طموحاته في ظل بيئة مضطربة من سماتها إدمان البعض الحرب بالوكالة؟
تحدد الإجابات العملية على هذه النوعية من الأسئلة الطريق الذي سيسير فيه السودان. ولأن السلطة الجديدة رسمت معالمها في الداخل والخارج على قاعدة نبيلة من المكونات والرموز المتعلقة بالعدل والمساواة والمواطنة ومكافحة الإرهاب ونبذ التوجهات القاتمة التي اتبعتها السلطة السابقة، فمن المنطقي أن تبتعد تدريجيا عن الدول التي تلفظ هذه القيم.
عندما تحدّث حمدوك عن علاقات متوازنة أو ما يعرف في الأدبيات الجديدة بـ”تصفير الأزمات”، لم يكن غرضه فقط تسوية الأزمات العالقة مع بعض دول الجوار، لكن أيضا الإفصاح عن سياسة ترفض الابتزاز وتقديم التنازلات. وهي إشارة أخرى أرسلها للدول التي لديها خلافات مزمنة مع بلاده، ودفعها للتفكير في حلول خلاقة غير مكلفة للسودان.
من المبكر الحديث عن مشكلة محددة في هذا التوقيت، لأن السودان سيكون معنيّا بترتيب أوضاعه المحلية وتقوية جبهته الداخلية، باعتبارها الركيزة التي تعتمد عليها السياسية الخارجية للدول. وعلاقتها طردية مع المكاسب والخسائر.
تعتزم السلطة الانتقالية الخروج من دوامة الضعف التي ارتاحت إليها قوى درَجت على التعامل مع السودان وهو على هذه الوضعية، لأنها كانت كابحا لأحلامه في عملية الحضور الإيجابي في المشهد الإقليمي. الأمر الذي جعل الرئيس المعزول عمر حسن البشير يكتفي بالدور السلبي، ويجد في الانتهازية والتنقل من معسكر إلى آخر سريعا وسيلة للهروب وتخطي بعض العراقيل. وكانت النتيجة أن علاقة السودان بغالبية دول العالم قلقة.
تصويب هذه الأخطاء لن يأتي من التمسّك بعلاقات توافقية على طول الخط. ففي لحظات كثيرة يضطر المدير الفني النابه إلى تغيير خططه عندما ينزل اللاعبون أرض الملعب ويجدون منافسهم يلعب بتكتيكات مغايرة. هنا يأمرهم بالتصرّف بناء على التحديات والمخاطر وتحاشي الهزيمة. وهذا ما يعيه حمدوك جيدا، لأنه شخصية ليست ديماغوجية وعقائدية، ولن يعدم امتلاك الأدوات التي تمكنه من التعامل مع التحديات والتعايش مع الواقع بكل طقوسه الوردية والسوداء والرمادية.
يراهن قطاع كبير من السودانيين على منح أولوية للفضاء الأفريقي في السياسة الخارجية، سواء بحكم المصالح الحيوية أو خبرة حمدوك مع الكثير من دوله، لكن البعد العربي سيكون أساسيا أيضا، ويقع على عاتق بعض دوله جزء كبير من المساعدات الاقتصادية والمشروعات التنموية. فضلا عن تراجع الفواصل التقليدية بين الجانبين الأفريقي والعربي، واهتمام دول كثيرة برفع شعار الاستثمار في المنطقة، وزيادة وتيرة التعاون السياسي والأمني لغلق الأبواب والنوافذ التي تتسلّل منها بعض الدول التي لديها أجندات خفية.
يفرض الموقع الجغرافي الحيوي للسودان، في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، أن يكون عنصرا فاعلا، ما يضغط على الجهات المسؤولة عن صناعة القرار في الخرطوم لتبني رؤية تستوعب هذه المكانة، ودور يتماشى مع الآمال المعقودة على السودان الجديد، في وقت انتقلت فيه المنطقة من التهميش إلى جذب أنظار قوى إقليمية ودولية عديدة. من ثم ستصبح توافقية حمدوك بعد فترة وجيزة كمن يقبض على الجمر وسط عواصف وأمواج عاتية.