محمد أبوالفضل يكتب:

قواعد جديدة للفرز السياسي في مصر

مع أن الركود يسود الحياة الحزبية في مصر، غير أن المواطن الحصيف لن يُعدمَ متابعة تراشقات وتجاذبات عدة على مواقع التواصل الاجتماعي كسبيل للحوار والشجار والتعبير عن مواقف بلا سقف محدد. قد يتخذ ذلك شكل التطاول والتعسف، أو المناورة والالتفاف. وفي الحالتين يمكن استشفاف الأرض السياسية التي يقف عليها الشخص وأهدافه القريبة والبعيدة.

هناك نماذج كثيرة للجدل الصحيّ والعقيم. بعضها يبدو منظما ويدور في فلك حلقات معقدة من اللجان الإلكترونية، كما تسمى في مصر. وبعضها يمضي في طريق فردي أو عشوائي لمجرد التنفيس عما يعتقد صاحب الرأي أو الموقف أنه الصواب، وبالتالي يجب أن يقاتل للدفاع عنه، باعتباره مسألة مبدئية.

لم يعد المردود قاصرا على المنخرطين في الجدل والنقاش مباشرة، بل تجاوز حدودهم إلى قطاع عريض من المتفرجين، بعد أن تحولت صفحات شخصيات مرموقة إلى منتديات أو “هايد بارك”، يدلي فيها الأصدقاء والمقربون والمهتمون والمتطفلون بدلوهم، حتى جذبت العديد من المتابعين الذين وجدوا ملاذات إعلامية آمنة وقلقة أيضا في الأفكار التي تحملها جمل قصيرة وطويلة (بوستات) للحصول على معلومات عن حركة الرأي العام المؤيد والمعارض، الغاضب والصامت.

تخضع بعض الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي لمتابعة شغوفين من جهات مختلفة. وباتت بوصلة لمعرفة ميول النخبة حيال عدد من القضايا الحيوية. ما جعل كتابا يتخذون من صفحاتهم الشخصية منبرا بديلا عن عمد لبث رسائل بعينها؛ متفائلة ومحبطة، بيضاء وسوداء. لأنها تضخمت وتحولت إلى ما يشبه المرشد لشريحة كبيرة من المتابعين.

يرمي الإخوان من وراء ذلك إلى خلق بلبلة سياسية تقود إلى خلخلة مجتمعية متدرجة، قد تضعف برأيهم في النهاية من دور المقومات الرئيسية التي يرتكن عليها النظام المصري

جاءت فكرة هذا المقال أصلا من رحم جملة كتبها على صفحته فيسبوك السبت، الدكتور مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، عبر فيها عن تعزيته في وفاة كل من عبدالله نجل الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي، ووالدة القيادي الإخواني محمد البلتاجي المحبوس على ذمة جرائم إرهابية، التي وافتها المنية مؤخرا.

امتدح البعض “البوست” كنوع من المجاملة الرمزية والمساندة المعنوية للجماعة وإثبات الحضور. وهاجمه كثيرون ووجدوا أنه يحمل جملة من المعاني السياسية في توقيت بالغ الحساسية، وأفضى للبحث في نوايا كاتبه والمقصود منه، بعيدا عن فكرة الاستقلال التي يحاول صاحبه ترسيخها دوما.

يبدو أن مصطفى السيد أراد جس نبض متابعي صفحته وتقسيم ألوانهم السياسية، أو فاض به الكيل من المشهد العام وعبر بتلقائية عما يجيش في صدره. ومهما كان غرضه فهو لامس واحدة من القضايا المثيرة في مصر. ظهرت تجلياتها عقب وفاة مرسي، حيث نصب مؤيدوه مأتما فسيحا على صفحات التواصل. الأمر الذي هاجمه معارضو الإخوان بضراوة ما أدى إلى فتنة بين من كانوا يعتقدون أنهم أصدقاء في العالمين الافتراضي والحقيقي، وجرى فرز عميق على أساس النوايا والتفسيرات والتأويلات. كان رد الدكتور طه عبدالعليم، الكاتب بجريدة الأهرام، واضحا وصادما في هذا السياق، حيث تساءل “هل الصراع ضد الفاشية التكفيرية والإرهابية ومشروعها لإقامة دولة الفقهاء وهدم دولة المواطنة.. مجرد خلاف سياسي”، ردا على قول السيد “التقاليد المصرية العريقة، هي أن الخلافات السياسية تتوارى أمام فقدان الأحباء”.

حفلت الصفحة بآراء متباينة عبرت عن عمق الانقسام السياسي في مصر. وتجد هذه النوعية من الصفحات فضاء رحبا للرشق والتنكيل وتصفية الحسابات. ويصل التمادي حد الوصف بالعمالة والتخوين لمجرد التعبير عن موقف مختلف في التأييد والرفض.

يضع بعض الكتاب على صفحاتهم الآن شعارات من قبيل “ممنوع الردح والسب”، “رجاء الحديث بموضوعية”، “الصفحة ضد الكلمات البذيئة”، “ممنوع تعليقات الكلاب والإخوان”، “رجاء عدم اقتراب الفلول”، وما إلى ذلك من صفات تكشف عن الهوية السياسية لأصحابها.

لست معنيا بالدور النشط والمنظم الذي تلعبه اللجان أو الميليشيات الإلكترونية، لكن معني بحالة السيد وعبدالعليم لأنها كاشفة عن اتساع نطاق الاحتقان. فهما ينتميان تاريخيا إلى معسكر اليسار الفضفاض والمثير في مصر، ومع ذلك تفرقت بهما السبل. هناك العديد من الأسماء على غرارهما تناهض الإخوان أيديولوجيا، وتتعاطف أحيانا معهم إنسانيا بذرائع مختلفة وتتدثر وراء عبارات براقة. وهي إشكالية لا تخلو من روافد وخلفيات سياسية قديمة.

هنا يدور التباس كبير بين السياسي والإنساني. فثمة من يرون انتفاء الفواصل بينهما عندما يتعلق الأمر بالثوابت الوطنية، مثل طه عبدالعليم، وثمة من يطالبون بضرورة الفصل بين الجانبين، مثل مصطفى السيد. وربما يمتلك كل طرف وجهة نظر تؤيد رؤيته، لكن خصوصية الحالة المصرية أدت إلى تداخل فاضح بينهما. كل فريق يتشبث بالمرتكزات التي يقف عليها دون اعتداد كبير باهتزازها وعدم تماسكها سياسيا.

تكمن المشكلة في النتائج التي تؤدي إلى التعاطف الإنساني مع الإخوان في حالات الوفاة والاشتباك المسلح، حيث تأخذها اللجان التابعة للجماعة كذريعة على أنها تعبير عن رفض خفي لتوجهات وسياسات الحكومة المصرية أو دليل على الإفراط في العنف. وتزداد أهمية المؤازرة الإنسانية عندما تأتي من أستاذ مرموق مثل مصطفى كامل السيد، له آراء رافضة للإخوان كجماعة عقائدية ارتكبت أخطاء فادحة.

هناك نماذج كثيرة للجدل الصحيّ والعقيم. بعضها يبدو منظما ويدور في فلك حلقات معقدة من اللجان الإلكترونية، كما تسمى في مصر. وبعضها يمضي في طريق فردي أو عشوائي لمجرد التنفيس

يبلغ التفتيش في الدفاتر والنوايا السياسية مداه عندما يتم تصنيف الكتاب والإعلاميين على أساس مكان العمل. فمن علقوا على رد عبدالعليم تركوا أسئلته المهمة والمضمون الدقيق الذي تنطوي عليه، وتوقفوا عند عمله الطويل في مؤسسة الأهرام الرسمية كوسيلة للتشكيك في المنطق الذي ساقه في الاختلاف مع السيد، الذي كان ممن يكتبون في الجريدة العريقة حتى وقت قريب.

أدخل الإخوان في السياسة والإعلام الكثير من المفردات السيئة على المشهد المصري. ولم تعد الساحة فارغة ومفتوحة أمامهم، فقد تمخض الإسراف عن قصد في الخطاب القاتم ونشر الأخبار والتعليقات الكاذبة وتأويلها إلى إيجاد خطاب مقابل يقوضه وبقسوة، خاص بدحض الأباطيل والشائعات.

يرمي الإخوان من وراء ذلك إلى خلق بلبلة سياسية تقود إلى خلخلة مجتمعية متدرجة، قد تضعف برأيهم في النهاية من دور المقومات الرئيسية التي يرتكن عليها النظام المصري. ويهتم التنظيم كثيرا بالأسماء التي لها مصداقية وسط النخبة الثقافية، ويحاول إعادة إنتاج أفكار حمّالة أوجه بصورة تصب في صالحه، بعد أن صرفت قياداته النظر عن وضع توقيتات محددة للقيام بأدوار سياسية مباشرة في الداخل وفشلت تحركاتهم من خلال أذرعهم الأمنية، ويعولون في هذه المسألة على اقتراب عناصر من اليسار إليهم ولو من الباب الإنساني.

تسبب التركيز على ما كتبه مصطفى كامل السيد، سلبا أو إيجابا، في مزيد من الفرز على أساس مدى الاقتراب من والابتعاد عن خطاب الإخوان. وهي المهمة التي من المرجح أن تغذي قواعدها التحتية الجماعة الأيام المقبلة لتعود إلى الأضواء السياسية وتعويض ما فقدته حركيا، بعد أن أجهضت الأجهزة الأمنية غالبية المخططات، وتصاعد الحديث عن انفضاض فئات شبابية كثيرة عنها.