وارد بدر السالم يكتب:

من المكاتبات إلى الرسائل الفكرية

بين “المكاتبات” و“الرسائل” اتخذ النثر العربي القديم أكثر من طريقة للتراسل على محورين أساسيين؛ يمثّلان  المحور السياسي اعتباراً من العصر الإسلامي الأول عندما تطلبت الحاجة أن تُخاطَب الدول والإمبراطوريات والقبائل لبيان الموقف الديني الجديد الذي أعقب العصر الجاهلي. وهي مراسلات مقتضبة وموجّهَة فيها بلاغة اللغة الموجهة بإشارات دالّة يحملها السعاة، لأغراض معروفة تتعلق بالدخول إلى الإسلام أو الجزية والضرائب وما إلى ذلك. ولو تتبعنا الموضوع إلى أواخر العصر العباسي مثلا لوجدنا أن مثل هذا (الأدب) النثري بات أكثر شيوعاً للمكاتبات الرسمية بين القادة والوزراء وأمراء الدواوين باعتباره وسيلة اتصال لابد منها لتحقق أهدافها ولو على فترات غير قصيرة. وربما تسببت بعض الرسائل في الحروب والمواجهات العسكرية، لِمَا فيها من لغة انفعالية أو استهزاء بقدرات الخصوم.

ومن المؤكد أن مكاتبات العصر القديم بقيت أثرا ودليلا ومصدرا أدبيا أولا قبل أن تكون قد سلّطت الضوء على الأوضاع السياسية والتاريخية والاجتماعية، وأوجزتْ مثل هذه الحالات بطريقتها. والكثير من المحققين التراثيين والنقاد المعاصرين عدّوها نصوصا أدبية لبلاغتها وإيجازاتها الدالّة، مع أنها تطورت بفعل توسع المعرفة والثقافة وانفتاح العصور الإسلامية المتأخرة على الأمصار والأقطار والدول التي توسعت فيها عسكريا بالفتوحات الإسلامية التي وصلت إلى الصين. فتركت أهميتها من هذه الناحية التاريخية وحتى العصور التي أعقبتها لما فيها من براعة في البلاغة والأفكار والحِكم والقيم التربوية والدينية التي بقيت عالقة في خطاباتها، وهي إحدى اللوازم التي لم يتخلَّ عنها الإسلامي المكاتباتي في مجمل ما يكتبه ويرسله إلى الآخر؛ عربيا كان أم غير عربي. وبقي مصطلح “المكاتبات” شائعا بين المرسِل والمستقبِل، قبل أن يتحول إلى “رسائل” أخذت طابعا أكثر مفهومية في الخطاب الأدبي وتوجّهاته.

وخلال تلك الفترة الطويلة، وما فيها من تعقيدات سياسية وخلافات سلطوية متعاقبة وحتى أبعد من القرن التاسع الهجري نشطت الآداب والفنون بنشاط الإمبراطورية الإسلامية واتساعها وتطور الكتابة الأدبية النثرية على وجه الخصوص. يأتي المحور الثاني الذي انشغل به الأدباء والشعراء والمفكرون العرب الإسلاميون وغير الإسلاميين الذين دخلوا الإسلام.عندما نشط النثر بشكل خاص عبر “رسائل” أدبية وفلسفية وفكرية أخذت من الوصف الأول “المكاتبات” روح الرسالة في التوجه إلى الآخر، على أن تتوسع صيغتها العلمية والفنية لتكون أوسع تأثيرا ومدى كـ“رسائل” أدبية وفكرية تنطوي على إشكاليات فلسفية وأدبية عميقة، مما يجعل مصطلح “المكاتبات” يتضاءل بصفته الشخصية ويخرج من طوره الموجز والمقنن إلى آفاق أدبية وفلسفية وروحية أكثر عمقا وشمولا؛ وهو ما أشاع مع الوقت تسمية “أدب الرسائل” باعتبارها نصوصا تستقل بذاتها تحت خطاب أدبي أو فكري أو ديني أو فلسفي. وبالتالي فإن العمق الأدبي لهذه المنظومة الرسائلية المتعاقبة أخذ يتوسّع، لكن بطريقة فيها بعض الغرابة؛ فمن المجموع الرسائلي (رسائل السلطة وتوابعها إلى الأطراف الأخرى) إلى الرسائل المفردة التي يكتبها الكاتب، “رسالة الغفران” مثلا لأبي العلاء المعري وهي العمل السردي العجائبي الفني المتكامل تقريبا في ملامحه الفنية، والتي استوحى منها دانتي مضمون “الكوميديا الإلهية” التي تتعاطى الخيال الغرائبي في وصف النعيم والجحيم.

هذه الرسالة الطويلة وما تلاها أو سبقها من رسائل استقلّت بوصفها نصوصا سردية خرجت عن نظام الأبوّة المكاتباتي البرقي الإشعاري الذي يلجأ إليه كَتبة الدواوين، وذهبت إلى التأليف في الخطابات الفكرية والثقافية مع التحضر الجديد الذي رافق الحياة الثقافية العربية في تلك الأزمان لاسيما في العصرين العباسي والأموي، اللذين يُعدّان أكثر العصور الإسلامية إنتاجا فكريا وأدبيا غزيرا، ولنا في رسائل الوزير الصاحب بن عبّاد في الاعتزال أحد الأمثلة و“رسالة التربيع والتدوير” للجاحظ كرسالة هجاء ساخرة لغريمه أحمد بن عبدالوهاب التي توفرت على أكثر من خطاب مرسَل في بلاغة الفلسفة والدين والفكر.في حين اختلفت رسالة أحمد بن فضلان التاريخية عندما زار روسيا برسالة من الخليفة العباسي إلى ملك الصقالبة. فأخذت طابعا سياحيا في أدب الرحلات العربي.

إن مثل هذه الرسائل هي كتب تامة اعتمدت النثر وسيلة إيصالية تحت مضامين أدبية وفلسفية عميقة. ولم تكن بطريقة “المكاتبات” التي درجت عليها أروقة العهود الإسلامية الأولى. وبالتالي ابتعدت عن شخصانية الرسائل واتجهت إلى عموميات التجربة النثرية بما فيها من عمق فلسفي وفكري وأدبي. بمعنى تخلصت من العام المُوجَّه سياسيا إلى الخاص الموجّه فكريا وأدبيا. ففي المكاتبات الأولى ثمة “إملاء” من جهة عليا وتركيز وتقشف في الكلمات وهي الرسائل السياسية الديوانية، وفي الرسائل المتطورة يستقل فكر فردي واحد مستقى من ثقافة الحالة العامة لكنه يمثل فردانية في التعبير والتوجه. تسابق المفكرون ورجال الدين والمتصوفة والأدباء والوعّاظ والحكماء في تعاطي هذا النوع النثري الجديد بتفريعاته وأهدافه الكثيرة، كـ“رسائل أخوان الصفا” في البصرة و“رسالة التوابع والزوابع” لابن شهيد و“الرسالة القشيرية” ورسائل بديع الزمان الهمداني وأبي بكر الخوارزمي وسهيل بن هارون وعبدالحميد الكاتب، وغيرهم كثيرون ممن أثروا المكتبة العربية بنصوص الرسائل التي باتت أكثر صلة بالإبداع الشخصي، وأسست لنمو السرد العربي ومنظومته الجمالية.