سعد القرش يكتب:

تجديد الخطاب السياسي.. بمناسبة تسونامي محمد علي

بتاريخ 3 أبريل 2018 نشرتُ، في صحيفة “العرب”، مقالا عنوانه “هوامش على تجديد الخطاب السياسي”، عمّا يشوب هذا الخطاب من أطياف دينية تخلط الثابت/ المطلق بالمتغير/ النسبي. واستشهدت بالخطاب غير السياسي لعبدالفتاح السيسي بإعلانه أنه مسؤول عن مهامّ وظيفته، “الدنيوية”، أمام الله في الآخرة. وهذا كلام غير سياسي، غير دستوري، يهين ذكاء شعب من حقه التمتع بالعدل في الدنيا، ومحاسبة المسؤولين وفقا لآليات يحددها دستور أقسم الحاكم على احترامه.

قبل أيام، فاجأَنا إعصار الممثل المصري محمد علي، وهو رجل أعمال ينفذ مشاريع إنشائية للهيئة الهندسية للقوات المسلحة منذ نحو 15 عاما، برفع الغطاء عن قدور تغلي بمواد حارقة، وضحايا ومشاريع ضحايا يقتلهم الخوف، وكائنات متصارعة وأخرى مستفيدة، وأرقام مليونية وأداء اقتصادي وإنساني ملتبس.

في تجاهل “تسونامي” محمد علي استغباء لجماهير عريضة، رأت شخصا وحيدا، لا يؤنسه إلا هاتفه، يهزم ترسانة إعلامية أنفقت عليها المليارات، وتخضع لإشراف أو رقابة أجهزة أمنية تسيطر أيضا على بقايا قنوات أرضية وفضائية حكومية، وفضائيات خاصة يملكها رجال المال المتحالفون مع كل الأنظمة. وفجأة يثبت محرك البحث “غوغل” أن محمد علي، الذي بث مقاطع فيديو من إسبانيا، هو أكثر “محمد” يبحث عنه القارئ العربي، قبل النبي محمد، وقبل لاعب الكرة المحترف في ليفربول محمد صلاح الذي وصفته، قبل شهور، بأنه أشهر مصري في العالم الآن.

حتى لو كان الحاكم مستبدا، فذكاؤه يجمّل خطابه ويجعله رشيدا. وإذا انفلت الخطاب، فكيف نطالب من يقول إنه “مظلوم” بألّا يجهر بالسوء من القول

خطاب محمد علي يدعو إلى تجاوز “هوامش” الخطاب السياسي، والدخول مباشرة في صُلب هذا الخطاب الذي يجب أن يتغير، هنا والآن؛ فالخطاب المعارض ليس نقيضا للخطاب الرسمي، وإنما هو انعكاس له. ولا يصح لأي مراقب، بدواع أخلاقية أو دينية، أن يستقبح خطابا منفلتا، دون أن يتأمل خطابا رسميا أقرّ هذا “الانحطاط”، وشجعه بإطلاق أذرعه الإعلامية للتكفير الوطني، والاغتيال المعنوي، والتعريض بالحياة الشخصية لمعارضين وخصوم، ومشاريع خصوم لا ذنب لهم إلا أنهم ليسوا مؤيدين.

وفي الاستعلاء على ما ذكره محمد علي إهانة لذكاء شعب يعرف أنه لم يقل جديدا. ولكنه بحكم انخراطه في المطبخ، أتيح له أن يسمي الأشياء بأسمائها، وأن يضع ملامح لأشياء كنا نرى تجلياتها، ولا نملك دليلا عليها. ولا أستطيع تصديق معلوماته عن الفساد وإهدار المال العام أو تكذيب هذه المعلومات. ويعنيني التوقف أمام الخطاب والخطاب المضاد، والأداة الإعلامية المتاحة لفرد يواجه ديناصورا يملك السلطتين السياسية والدينية أيضا.

دستور 2014 في مصر هو أول دستور في العالم يجري تعديله، مسبوقا بحملة دعائية بالترغيب والترهيب، قبل تجريبه لاختبار مدى صلاحيته. وتقول مادته رقم 57 “للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس، وللمراسلات البريدية والبرقية والإلكترونية والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محدودة”. ولم توجّه تهمة خرق الدستور وتحدي القانون، إلى إعلاميين تسمّنهم أجهزة سرية وتحرّضهم على انتهاك الحياة الخاصة لمواطنين، وآخر الضحايا عضو البرلمان المخرج خالد يوسف في فبراير 2019

محمد علي أعاد إنتاج هذا الخطاب، بخشونته وفظاظته التي لم تكن تؤرق دار الإفتاء المصرية. ولكن هذا الخطاب صار غير لائق، حتى أن دار الإفتاء غرّدت في تويتر، السبت 7 سبتمبر 2019 “إذا رأيت الرجل يدافع عن الحق فيشتم ويسب ويغضب فاعلم أنه معلول النية لأن الحق لا يحتاج إلى هذا”. وفي مقابل المتابعات المليونية لكلام محمد علي، رشق التغريدة المتسلحة بالانتساب إلى الإمام مالك، في 24 ساعة، 170 تعليقا ساخرا، وهذا بعض ما يمكن نشره “إدارة الشؤون المعنوية شعبة الإفتاء. يا مشايخ اللواءات يا فجرة”، “ومفيش فتاوى ولا أحاديث عن سرقة مال الشعب؟ عن ضرورة مقاومة الظلم؟ مفيش نصائح عن أخطار خلط الدين بالسياسة ووجوب حماية الدين من تدنيسه من قبل الحكام؟ مفيش خلاص؟”.

ولم يفكر أحد من رجال الدين في أن يكون محمد علي، ربما والله أعلم، مظلوما تنطبق عليه آية “لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، وكان الله سميعا عليما”.

ردود الفعل، في أغلب الأحوال، تساوي الفعل. ولم يكن الخطاب السياسي بهذا السوء. احتاج أنور السادات إلى عشر سنوات ونصر عسكري، لكي يستهين في خطاب تلفزيوني برموز وطنيين منهم فتحي رضوان، وقال إن الشيخ أحمد المحلاوي “مرمي في السجن زيّ الكلب”، وخاطب عمر التلمساني باسمه مجردا “مش كده يا عمر؟”. ورغم الغضب سمح السادات للتلمساني بالرد والتوضيح. ثم طلب الرئيس إلى التلمساني أن يسحب شكوى قدمها إلى الله في السادات.

وفي عام 1961 نقل التلفزيون، مناظرة بين جمال عبدالناصر والكاتب خالد محمد خالد، في اجتماع اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي انبثق عنه الاتحاد الاشتراكي وإصدار الميثاق. وعقّب الكاتب على عبدالناصر قائلا إن الديمقراطية “أن يكون الشعب قادرا على أن يختار حكامه باقتراع حرّ، وأن يكون الشعب قادرا على أن يغير حكامه باقتراع حر. الديمقراطية هي أن يمارس الشعب مسؤوليته، وأنا لا أجامل حين أقول إننا إذا أضعنا على الشعب فرصته الكاملة في أن يمارس الديمقراطية بمفهومها الذي ذكرته الآن، فإننا نحرمه فرصة العمر”. ودار بينهما نقاش متكافئ. وفي عهد حسني مبارك خسر وزير الداخلية زكي بدر منصبه لانفلات لسانه بسباب معارضين.

وفي 13 أبريل 2016، بعد الغضب الشعبي المكتوم بعد إعلان التنازل عن جزيرتيْ تيران وصنافير المصريتين، ألقى السيسي محاضرة على العشرات من السياسيين والبرلمانيين والصحافيين وأساتذة التاريخ والقانون والمجلس القومي لحقوق الإنسان. سمعوا مسوّغاته النافية لمصرية الجزيرتين، وطلب عضو بالبرلمان الكلمة، فرفض السيسي “أنا ما اديتش لحد الإذن إنه يتكلم”، وانقطع البث التلفزيوني.

حتى لو كان الحاكم مستبدا، فذكاؤه يجمّل خطابه ويجعله رشيدا. وإذا انفلت الخطاب، فكيف نطالب من يقول إنه “مظلوم” بألّا يجهر بالسوء من القول؟