سعد القرش يكتب:
حدث 20 سبتمبر في مصر.. فشل ثورة الإخوان المصنوعة
وفقا لعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار فإن “حرب الخليج لم تحدث” عام 1991، إلا على مستوى رمزي، ومن هذا المنظور الرمزي فإن مصر أيضا شهدت “ثورة” مساء الجمعة 20 سبتمبر 2019. في ذلك المساء وقعت حرب إعلامية بين فريق قطري إخواني تركي يؤكد اندلاع الثورة وفريق حكومي مصري ينكرها. وقد سبق الثورة المصنوعة وتلاها اعتقال المئات بمن فيهم من أعلن أنه ضد التظاهر. فكيف اعتقل هؤلاء في مظاهرات لم تحدث؟
ليست لي ذكريات في “ثورة” 20 سبتمبر، فماذا أقول لأحفادي لو سألوني: أين كنت؟ وهل تخاذلت؟
سأجادل بأنني كنت عائدا من المغرب إلى مصر، وقد بدأت الأحداث وانتهت وأنا فوق السحاب، ولم تستمر إلا في أوهام مسؤولي فضائيات لديها مرض مزمن اسمه مصر. وقد أراهن في الهروب من الإجابة عن السؤال بأنهم لن يسألوا، استنادا إلى أمنية أن تكون هذه المرحلة مجرد ماض، كما نقرأ اليوم عن 33 شهيدا في ثورة العمال والطلبة عام 1946، وكيف فوجئ الآلاف من عابري كوبري عباس بقوات الشرطة تهاجمهم من الخلف، وتفتح الجسر. وفي الاجتماع التأسيسي لاتحاد الطلبة العالمي، في أغسطس 1946 تم اختيار “21 فبراير” يوما عالميا للنضال ضد الاستعمار، وهو أيضا “يوم الطالب المصري”.
وكانت حكومة إسماعيل صدقي قد راهنت، في صرف الجماهير من ميدان التحرير، على مرشد الإخوان، فاتجه حسن البنا إلى الميدان، في سيارة مكشوفة بجوار حكمدار القاهرة. مضى ممثل الحكومة و”ممثل المسلمين” إلى هدف واحد، في سيارة واحدة لإجهاض الثورة. في الوقت نفسه كان القيادي الإخواني مصطفى مؤمن يحث زملاءه، في جامعة القاهرة، على منح صدقي فرصة جديدة، وشبّه صدقي بالنبي إسماعيل، مستشهدا بآية “واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد”. وأصدر مؤتمر نقابات العمال والشركات الأهلية بيانا يسجل أن جماعة الإخوان دأبت “على بث الدسائس وتدبير المؤامرات التي ترمي في مجموعها إلى القضاء على الحركة الوطنية أو تحويلها عن أهدافها، مما لا يخدم إلا الاستعمار… وقد ظهرت للشعب نيات هذه الجماعة سافرة، من دعوة للطائفية تستهدف إحداث الانقسام في صفوف الشعب لصالح الاستعمار، إلى محاربة اللجنة التنفيذية العامة للطلبة بوسائل فاشية إرهابية”. كتب هذا البيان عام 1946!
ليس هذا كلاما في التاريخ، ولكني باستعادته أستريح من ملاحقة أحداث فاجأتني بمجرد الوصول إلى مصر، إذ جاءتني رسائل أصدقاء عرب بالتهنئة “مبروك”، وهي كلمة دالة وصلتني مرتين.. مساء 11 فبراير 2011 حين خُلع حسني مبارك، ومساء 3 يوليو 2013 حين عزل محمد مرسي. وبعيون مرهقة وجسد مجهد يستردّ روحه، بدأت أتابع مقاطع الفيديو، وأشعر بالندم على غيابي، وتلومني نفسي “يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما”.
لا أشاهد التلفزيون منذ سنين، وأستغني عنه أحيانا بوسائل التواصل الشخصية، وبعض هذا المتاح بثّه أصحابه، وأغلبه ورد من مضخات فضائيات الجزيرة التي أكدت اشتعال الثورة على عبدالفتاح السيسي. ولكن مقطع فيديو وصف السيسي بأنه “المخلوع جوّا”، ألحّ عليه الإخوان في فضائياتهم، دفعني إلى الشك. ومصدر الشكوك ليس “ثورة” 20 سبتمبر 2019، وإنما يرجع إلى أيام الأمل في ميدان التحرير خلال ثورة 25 يناير 2011، وكنا نفرح بأي معول يسهم في تقويض حكم مبارك، وكانت لافتات فضائيات الجزيرة ترتفع في ميدان التحرير وترفرف ونشيد بها. ووسط هذا الفرح بالجزيرة نبهني صوت من خارج العالم العربي، إلى ضرورة خوض المعارك الشريفة بأسلحة لا تقل شرفا.
سجلت هذا في كتابي “الثورة الآن: يوميات من ميدان التحرير”، المنشور مسلسلا 2011 وكتابا ورقيا مطلع 2012. الأحد 30 يناير 2011، تحت عنوان “مبارك يعلن الحرب على الشعب”، جاءتني رسالة إلكترونية من الكاتبة الجزائرية المقيمة بباريس آمال فلاح تتساءل بقلق: “ماذا يحدث عندكم؟ الجزيرة تجازوت الإخبار إلى التحريض”. وفي حماسة الثورة لم نبالِ بالتحريض، ولم نتوقع أن يستمر وتتغير أهدافه إلى النيل من مصر نفسها لا من السيسي الذي سيذهب يوما بصيغة تقررها إرادة الشعب، كما ستختفي من الجغرافيا كيانات سياسية وظيفية بمجرد انتهاء خدماتها للرعاة الدوليين.
ليست لي ذكريات عن “ثورة” 20 سبتمبر 2019، ولكنني في الأيام السابقة عليها لم أخطئ احتقانا عربيا ضد مصر، خصوصا إدارة السيسي الفردية المتخبطة، وبعض هذا الاحتقان مستحق. ويسمح الجسد السياسي والبنيان الاجتماعي لدولة مثل مصر بانتقاد مؤسساتها، وتوجيه اللعنات إلى أكبر رأس فيها، من دون أن تتأثر. ويتعمد النائحون بأجر رفع أصواتهم، وكلما زاد الهياج ارتفع الأجر، ولم تشعر نائحة يوما بأي أسى على الميت، أو بشفقة على أهله المفجوعين في مصابهم.
ولأن أكل العيش مذلّ؛ فلا يجد هؤلاء النائحون العرب حدا أدنى من الشجاعة، ولو بتغريدة أو سطر في منشور فيسبوكي، ينتقد أميرا أو كفيلا، ولا أقول الرأس الأكبر المعصوم من الأخطاء والانتقادات، ولا يجرؤون أيضا على انتقاد حكام بلادهم، على الرغم من وجودهم في مأمن جغرافي، ولكن سباب مصر مجاني، ويجلب المال والبطولات.
السيسي هو المسؤول عن هذا الاحتقان تجاه مصر، فالرجل كاره للإعلام، ويراه أداة للإرشاد، ولا يعي أن الشعب نضج وقام بثورة عظيمة في 25 يناير 2011، وأن صعوده إلى أول الصف من آثار الثورة وارتداداتها. هذه الثورة ولا تسمح هذه القبضة الإعلامية البوليسية بصوت عاقل يقول الصدق، ولهذا غاب الإعلام المصري تماما، ولا يعرف الجمهور في المغرب عن مصر إلا ما تذيعه فضائيات الجزيرة، حيث تغيب الفضائيات المصرية الحكومية التقليدية والتي تأسست بتوجيهات أمنية مباشرة، والخاصة التي لا تخالف لها أمر. صوت واحد يتردد صداه في العشرات من الفضائيات المصرية ولا يتوجه إلا إلى جمهور مصري محلي عازف عنها، ويبحث عن قنوات الإخوان التي لا يحبها لكي يجد شيئا آخر.
في الشارع غضب مكتوم، ولكن وجود الإخوان سيحبطه، فليسوا أهل ثورة، ويخلو رصيدهم من سجل وطني مشرّف، وينتظرون لحظة اندفاع أرواح الشعب جسرا إلى الحكم. وجاء بيانهم كالعادة استثمارا يتربص بالصيد، إذ “يثمِنُ المكتب العام للإخوان المسلمين الحراك الجماهيري الذي اندلع مجددا”، وراح غلمانهم يروجون أكاذيب فضحت جهلهم بالمفردات المصرية، فمن اعتاد تربية الأقبية يعجز عن رؤية النور، ولا يعي من مفردات مصر شاعرا اسمه أحمد فؤاد نجم، فأذاع أحدهم أبياتا من قصيدة يلقيها نجم، بتعليق “رجل مصري مسنّ يلقي شعرا أثناء المظاهرات التي خرجت للمطالبة بإسقاط السيسي ونظامه. شيّد قصورك على المزارع/ من كدنا وعمل إيدينا. واطلق كلابك في الشوارع واقفل زنازينك علينا” في بعث ثان لنجم الذي توفي عام 2013.
فرصة جديدة لنائحة اسمها توكل كرمان كتبت أن السيسي “المخلوع” لن يعود من نيويورك إلى مصر. تكلمت بثقة نيابة عن المصريين الذي لم يبالوا بها حتى وهي صف الثورة على محمد مرسي وتنظيم الإخوان في 30 يونيو 2013، وقد اتهمت الإخوان في 29 يونيو 2013 بالفشل وإضاعة مصر وعزلها. وفي 30 يونيو كتبت “لو كانت حركة الإخوان في مصر حركة ديمقراطية لأطاحت بمكتب الإرشاد ومعهم الرئيس مرسي لفشلهم الذريع في إقامة تحالفات”، و”الشرعية الثورية في التحرير وهي أقوى وأعظم من أي شرعية”.
تبين للعقلاء أن الثورة الفضائية تشتعل وتنطفئ ولا تترك جمرا. وأيا كان الأمر فإن ما جرى في 20 سبتمبر جرس إنذار حقيقي، ولهذا كانت الإجراءات خشنة، باعتقال كمال خليل والشاعرة أمينة عبدالله التي كتبت اعتراضها على التظاهر. وفي هذه اللوثة اعتقل حازم حسني الذي أعرفه منذ عشرين عاما بعقلانيته وانحيازه إلى الوطن الجامع، وكانت التغريدة الأخيرة لحسن نافعة قبل اعتقاله “أرجو أن يفهم كلامي على وجهه الصحيح، فليس لدي شك في أن استمرار حكم السيسي المطلق سيقود إلى كارثة، وأن مصلحة مصر تتطلب رحيله اليوم قبل الغد، لكنه لن يرحل إلا بضغط شعبي من الشارع، وعلينا في الوقت نفسه اختيار أقل الطرق كلفة لضمان انتقال السلطة إلى أيد أمينة، وأن نتجنب سيناريو الفوضى”.
على الرغم من هشاشة تدعو إلى اعتقال أكثر من ألف مواطن، عقب مظاهرات «سريّة»، فإن ما يطمئن السيسي أن وجود الإخوان في أي تظاهر سيكون سبب فشله، فشل التظاهر بالطبع.