محمد أبوالفضل يكتب:

ملامح موجة جديدة للتغيير في المنطقة العربية

يبدو أن المنطقة العربية تقف على أعتاب مرحلة جديدة للتغيير خلال الفترة المقبلة. تغيير من نوع يختلف عمّا سبقه من مكونات عصفت بالبعض، وقاومها آخرون، لكن الفريق الثاني قد لا يستطيع الصمود أمام عواصف سياسية يمكن أن تقتلع الكثير من الجذور، وتأخذ في طريقها غالبية الأحزاب والقوى التي لم تحسن قراءة التطورات والتعامل معها بصورة واقعية، ولم تراع حركة المتغيرات الشعبوية في دول كثيرة.

مشكلة الموجة الجديدة، إذا صح التعبير، أنها جاءت من خارج منظومة الحسابات التي خبرت السلطات الحاكمة التعاطي معها وفقا لآليات تعتمد على البطش الأمني والرقابة الصارمة وزيادة القيود على الحريات، ولم يعد هذا الأسلوب مجديا لمواجهة حركات جماهيرية عشوائية تتصاعد في الشارع، ولها ذيول داخل فئات اجتماعية مغبونة، وتستهدف معاقبة الطبقة الحاكمة بأكملها، من دون اعتبار لميول طائفية أو انحيازات لتيارات سياسية.

بعيدا عما يحققه هذا الطريق من نجاحات أو إخفاقات، ففي النهاية هو يعبر عن رياح لم تعتد الكثير من الدول العربية التعامل معها، ما يقود إلى تبني تصرفات تزيد الأمر اشتعالا، لأن المرونة التي يمكن اللجوء إليها عند الملمات الكبرى والمحكات القريبة من وجدان الشارع غير مقنعة وجرى تفريغها من محتواها، في ظل ارتفاع معدل فقدان الثقة بين الحكام والمحكومين والنخبة. وهي أزمة تضاعف من صعوبة الحل وتجعله مفتوحا على احتمالات مجهولة.

فقدت بعض الحكومات الكثير من أوراقها للتخويف بمصائر غامضة في دول مثل سوريا وليبيا واليمن قادتهم الانتفاضات إلى مصير سيء، عقب نجاح تجربة السودان، وثبات النموذج التونسي، وحنكة التحركات في الجزائر

تؤكد متابعة المشاهد والتعليقات القادمة من لبنان أن هناك أزمة هيكلية، ترمي إلى التخلص من إرث هش ومتعدد الألوان، فشل في علاج أزمات متراكمة أو حتى تخفيفها على مدار نحو عقدين، وتحكم حزب الله وحده في معظم قواعد اللعبة، صعودا وهبوطا، أفقيا ورأسيا، وقادت ممارساته المؤدلجة إلى انسداد سياسي، بما مكّنه من القبض على مفاتيح العديد من القرارات التي وجدت انتعاشا في حالة الفوضى والفوران، لأن الهدوء والاستقرار يمثلان عبئا ثقيلا.

ليس المقصود من تظاهرات لبنان معاقبة حزب الله على وجه التحديد، غير أنها تحمل في طياتها رفضا صريحا لكل ما يدور في العلن وخلف الكواليس حيال عملية رهن الدولة ورؤوسها ومؤسساتها الحيوية بإرادة جهة لها امتدادات خارجية معروفة. فقد سئم الناس لعبة جلبت معها الكثير من الخسائر، إلى الدرجة التي حضت أنصار طوائف وأحزاب معينة على الخروج عن قياداتها وعدم الرضوخ لإرادتهم مهما كانت التكلفة. يحمل التحفظ على خروج تظاهرات لبنان، لدواعي اقتصادية واجتماعية وليست سياسية، مغالطات فاضحة، لأن الاحتجاج على فرض ضريبة على استخدام “واتساب” قد يكون الشرارة التي انطلقت منها الأحداث، لكن سرعان ما صُبغت التطورات وتفاعلاتها بطابع سياسي له علاقة بارتكاب أخطاء جسيمة شلت مفاصل الدولة والمواطنين.

كما أن العشوائية أو فقدان القيادة التي يخشى البعض من أن تفضي إلى ارتباك وغموض بالغَيْن تستطيع تنظيم نفسها بعد برهة قصيرة، وتمتلك أذرع وأجنحة قادرة على تخطي أي عقبات سياسية تنظيمية. ولعل تجربة قوى الحرية والتغيير وقبلها تجمع المهنيين في السودان، أكدتا أن الرغبة والإرادة والحسم من الأدوات اللازمة للتغيير، حتى لو بدأ شعبويا فطريا.

شيء قريب مما حدث في لبنان تكرر في العراق خلال الأسابيع الماضية، ومع أن الأحداث لم تسفر عن نتيجة إجرائية وملموسة في مجال التغيير، ولم تتمخض عن رؤية دقيقة تشير إلى بوصلة عملية قادمة، لكنها في مجملها وجّهت إنذارا شديد اللهجة لكل القوى التي تنخرط في الحلبة السياسية بعيدا عن الثوابت الوطنية، ورهنت مصير الدولة بإرادة أحزاب وحركات طائفية لها علاقات وثيقة ومصالح خطيرة مع إيران.

إذا كانت هناك تقاطعات إيجابية بين العراق ولبنان، فهي منصبّة حول رفض رهن مصير الدولتين بما تريده أو ترفضه طهران، وكل من يدورون في فلكها، قبولا أو صمتا أو ضعفا.

تنطوي هذه الدلالة على رسالتين مهمتين. الأولى أن هناك لحظة يمكن أن يخرج فيها الشارع العربي عن حلمه واستسلامه وخموله وخنوعه. والثانية أن الثورة ليست بعيدة عن الشارع الإيراني، فكل مقوماتها مهيّأة لتفجيرها عندما يصل الجمهور إلى قناعة تمكنه من تفجير طاقة الغضب المكبوتة على مدار العقود الماضية، لأن جزءا من العوامل الكامنة وراء الأحداث في كل من العراق ولبنان، قد تدفع شريحة من الإيرانيين إلى الخروج عن ولاية الفقيه.

استفادت الجهات الراغبة في التغيير الجذري مما تم من تشويه مقصود لبعض الثورات والانتفاضات في المنطقة العربية، وخطفها من قبل قوى إسلامية واحتكار ثمارها السياسية، أو حصول المؤسسات العسكرية على هيمنة لافتة، وكلها عوامل أفقدت فكرة التغيير لمعالمه النبيلة، وجعلت دوائر شعبية تكفر به، لأنه أضحى مرتبطا بالتخريب والتدمير والانفلات.

تصمم الموجة الجديدة التي تقف خلفها فئة عريضة من الشباب الحالم، على الوصول إلى تحولات عميقة تتخلص من ميراث سابق طويل وروافد سلبية نالت من الحياة السياسية، وعدم الوثوق في أي جهة شاركت في تهيئة الأجواء لواقع قاتم ربما يزداد بؤسا مع الأيام، وما أدى إليه من توترات وأزمات عجزت القوى السياسية والاقتصادية والأمنية عن حلها.

كشفت تجارب تونس والسودان والجزائر عن رفض عارم لكل من حاولوا التمترس في خنادقهم التقليدية، وضمان مكان لهم تحت شمس التغييرات، وعاقبهم الشعب عبر تقويض دور الأحزاب صاحبة الظواهر الصوتية واختيار شخصيات من خارج الماكينة التي يتم تصنيع وتعبئة القيادات فيها، كما هو في حالة تونس.

وتم فرض حكومة مدنية بإرادة شعبية واضحة ولها صلاحيات كبيرة للتهيئة لما بعد المرحلة الانتقالية، كما حدث في السودان، والإصرار على رفض إعادة إنتاج الدور المحوري الذي تقوم به المؤسسة العسكرية في المشهد السياسي، كما هو حاصل في الجزائر.

خرجت جماهير متفرقة في كل من العراق ولبنان والسودان والجزائر، ووقعت تجاوزات أمنية كثيرة، وسقط ضحايا كثر من المواطنين، ولم تنجرف دولهم إلى دوامة جهنمية من الاقتتال الأهلي الممتد، لأن الجمهور تعلّم وسائل تفادي ذلك من بعض التجارب، وخبر الأسباب التي تفضي إلى شيوع العنف وتجنبها، ولم يمنح فرصة لمن سعوا إلى جره إلى هذه الحلقة أو التلويح بها.

نظم السودانيون تظاهرات على مدار شهرين ولم ينحرفوا عن هدفهم في التغيير. ولا يزال الجزائريون يواصلون ضغوطهم كل جمعة من خلال الشوارع والميادين وحافظوا على نضارة احتجاجاتهم وثبات مطالبهم. وهو ما ينتظر أن يسلكه اللبنانيون الذين سبقوا غيرهم في التظاهرات الحاشدة منذ سنوات، وعادوا إلى بيوتهم بسلام، وربما يحتاج الموقف هذه المرة إلى المزيد من الوقت والتضحيات، لأن المواجهة واسعة ومتشعبة.

فقدت بعض الحكومات الكثير من أوراقها للتخويف بمصائر غامضة في دول مثل سوريا وليبيا واليمن قادتهم الانتفاضات إلى مصير سيء، عقب نجاح تجربة السودان، وثبات النموذج التونسي، وحنكة التحركات في الجزائر، بما يعني أن الموجة الجديدة للتغيير تتسم برشادة سياسية، حيث تعلمت من دروس الموجة الأولى قبل حوالي تسع سنوات، كيف تقلل من هامش الانحراف عن الأهداف المطلوبة، بما يقود إلى الإصلاح السياسي قسرا أو طواعية.