نهى الصراف تكتب:
رسائل توك توك
بعد أن تخلى عنهم الجميع ولفظتهم كتب المنظرين الاقتصاديين وأخرجهم العالم الجبان من حساباته المستقبلية، تدخلت مخلوقات غامضة لا يعلم الله إن كانت سقطت من السماء أو خرجت من ثقب الوجع.. لتربت على أرواحهم المكسورة وتمنحهم جرعة صبر ونفحة هواء نقية بعد أن امتلأت أجسادهم بغازات مسيلة للدموع.
لا يبدو التوك توك الذي ظهر كمخلوق خرافي في ساحات التظاهر العراقية، وسيلة نقل عادية، فهو أشبه بمركبة فضائية بعجلات من ريح تسير على الأرض بسرعة غريبة تراوغ المسافات، تتوقف في اللحظة المناسبة لتلتقط أنفاسها بينما يتأرجح سائقوها، المخلوقات الغامضة التي لا تشبهنا، مثل غيمات طيبة تحط على الأرض بين الحين والآخر لالتقاط آهة من فم موجوع أو صرخة من جرح فاغر، ثم تطير على خطى ملائكة مسرعين حمّلتهم سماء بعيدة رسائل اعتذار متأخرة.
التوك توك الذي تطور عن مركبة الريكاشة اليابانية القديمة، تحوّل إلى سيارة إسعاف تنقل الجرحى إلى المستشفيات وسيارة نجدة تنقل الطعام والماء لرفاقهم الذين ينتظرون دورهم على حافة الجرح.
في المقاييس العالمية، يعد التوك توك مركبة غير مطابقة للمواصفات الأمنية، وذلك لعدم اتزانها وافتقاد هيكلها الخارجي للمتانة، إضافة إلى عدم وجود أبواب أو أحزمة أمان وهو ما يعرض الركاب للخطر في حالة الحوادث، لكنه كان وسيلة الإنقاذ الأكثر متانة لجرحى التظاهرات في العراق!
غير مصدقة، كنت ألاحق شبح ابتسامة رغما عني، وأنا أتابع حركة المركبات (التكتكية)، التي ذكرتني بأفلام الرسوم المتحركة التي تتحدث عن مخلوقات فضائية عجيبة ستأتي في يوم ما، على غفلة منا، لاحتلال كوكب الأرض! كذبوا علينا كثيرا ولوثوا طفولتنا بهذياناتهم، وبينما كنا نتابع باهتمام وفضول كبيرين مصيرنا في أفلام الكرتون، تفرغوا هم لاحتلال كوكب أحلامنا.
توقفت أفكاري ومعها ابتسامتي المزيفة، بعد أن لمحت ملاكا آخر كان يلاعب الموت من مسافة قريبة يقف متحديا وهو لا يمتلك سوى عظام رقيقة وسنوات هشة، يمكننا أن نعدها على أصابع اليد الواحدة.
فتى نحيف، كما وثقه مشهد فيديو معتم بعد منتصف ليلة بغدادية حافلة بالموت، يحمل راية ويلوح بها وسط فضاء مغمور بالرصاص الحيّ!
– “ماذا تفعل.. طفل طفل هذا.. ارجع أبوالراية!”، صرخ رفاقه وهم يراقبونه من مسافة آمنة.
لا، لا أظن أنهم رفاقه، فالفتى كان في سن الثانية عشرة أو أقل بقليل. واصل الشبان صراخهم “تعاااال ارجع..”، من دون جدوى. وكأنه مسكون بالعناد، لا يرى ولا يسمع حتى صوت الموت وهو يصرخ في وجهه الغض مع رشقات الرصاص..
يقول له الموت “أنا في طريقي إليك” ويقول رفاقه “تعااااال.. اسحبوه من المكان.. إنه مجرد طفل” فيرد عليهم هو بالصمت بينما يحمل الراية بصعوبة ويرفرف بها أعزل.
كيف وصل الملاك إلى هذه البقعة الموبوءة بالموت؟ وكيف تركته أمه وذهبت إلى سريرها في هذه الليلة المظلمة؟
ليس هذيانا، ما أكتبه في الساعة الثالثة فجرا، هذه ترجمة حرفية للمشاهد التي تسقط على شاشة حاسوبي منذ أيام مرّت على اندلاع تظاهرات شباب العراق.
نعم، تم (سحب) الصبي – الملاك وأنقذه رفاقه ولم تخدش طفولته رصاصة تائهة، لكنني ما زلت واقفة في مكانه أتلقى الرصاص بدلا منه وأحاول أن أخفف من سخونتها أو أخفيها في مكان ما، حتى لا تلاحق الصغير مرة أخرى في كوابيسه.