وارد بدر السالم يكتب:

تسجيلات الهواة في الثورات مادة تغير الأدب والسينما

سجلت وتسجل لنا الثورات والانتفاضات العربية الأخيرة والحراك الشعبي العام الذي رافقها وتنفّس معها وساندها أولاً بأول، في السودان ولبنان والعراق على سبيل المثال، عشرات ومئات من الصور الفوتوغرافية والحلقات الفيديوية النادرة التي التقطها هواة ومواطنون بطريقة عفوية جداً لتسجيل بعض الزوايا من هذه المآثر الشعبية، وتم بثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة كوثائق حية من أمكنة الحدث المباشرة من دون تدخل فني أو إخراجي أو جمالي، لتكون مثل هذه الوثائق معبّرة عن لحظات الثورات الوطنية الشخصية عبر مواطنيها الذين يعيشون إرهاصات الانتفاضات والثورات بطريقة فورية بشعارات الإصلاح والتغيير والقضاء على الفساد السياسي والإداري.

هذا الكم الصوري والفيديوي الكبير الذي يتوالى عبر المنافذ الإلكترونية مع لحظات الانتفاضات والثورات المضادة للحكومات، هو مواد تسجيلية خام بطبيعتها الأولية، لكنه الآن ومع الوقت الذي يتقادم، يُعد وثائق فيلمية في غاية الأهمية تؤرخ لثورات المجتمعات العربية وانتفاضاتها على الظلم والفساد والطائفية التي أكلت من “جروف الجماهير” وحولتهم إلى كانتونات مذهبية غير صالحة للاستمرار مع الزمن.

 ومثل هذا الكم الكبير من الفيديوهات الفيلمية القصيرة والسريعة، تحتاج فقط إلى خيال سينمائي مُحكم وربط درامي معقول، ليخرج بمواد سينمائية غاية في الأهمية من دون الحاجة حتى إلى ممثلين وسيناريو معقد وزوايا تصوير منتقاة.

تسجيلات الهواة غير المقصودة أحيانا بعفويتها ومباشرتها، يمكن أن تشكّل انتفاضة ثقافية على المدى القريب والبعيد

فمثل هذه الأفلام التسجيلية تبقى ضرورات تاريخية جيلية تتعاقب على مدار الزمن كقصص واقعية ومرويات حيّة تؤرخ وتفسر وتحلل الكثير من الوقائع الاجتماعية والسيكولوجية للمجتمعات العربية، كما نعود اليوم بين حين وآخر إلى الأفلام التسجيلية العالمية الفريدة؛ كالحربين العالميتين وبعض الحروب المحلية هنا وهناك وأفلام الثورات والانقلابات العسكرية والمدنية، لنرى أهوالها ومسبباتها ورموزها الكثيرة التي حوّلت الحياة إلى جحيم بشري في أفران الحروب القاتلة ومحارقها الكثيرة.

ويقابل هذا حروب التحرير الكثيرة التي خاضتها الشعوب من أجل حرياتها الجماعية، مثلما نرى رموز المقاومة التي واكبت مجتمعاتها في أوقاتها الصعبة والحرجة باقية إلى هذا العصر؛ جيفارا كمثال عالمي.

وكما استفاد الأدب العالمي والعربي من هذه المتغيرات السريعة، استفادت السينما على نحو واضح بالتسجيلات النادرة التي وثّقت الأحداث الماضية، فإن ما تركه لنا التاريخ التسجيلي العالمي كثير وكبير وبعضه نادر فعلاً، مع أن إمكانيات الزمن السابق الفنية كانت متواضعة وبسيطة، غير أنها أبقت الصور الحية فوتوغرافياً وفيديوياً إلى هذا اليوم كمراجع تاريخية لا غنى للجميع عنها يمكن لنا أن نستقصي فيها الماضي القريب والبعيد، ونكتشف الأبعاد السياسية الدامية التي أوصلت الحياة القديمة إلى المسالخ والمذابح والحروق والخراب. التسجيلي سارد سياسي أو عسكري أو انتفاضاتي أو تظاهراتي أو اجتماعي مباشر وواضح لا تزوير فيه، ومن هذا يمكن تسجيل الثورات العربية وانتفاضاتها بعيون المواطنين والهواة، فهي لا تقل قيمة عما جرى في الماضي في مستوياتها الشعبية والوثائقية والتسجيلية. خاصة وأن طرق التسجيل الحر والمباشر متوفرة أكثر مما هي عليه في الماضي. والنقل (المباشر) ممكن في أية لحظة ومن هاتف أي مواطن يتواجد في لحظة (الحدث) أو في جزء منه ويبثّه إلى كل مكان في العالم القريب والبعيد.

 ومثل هذا التوثيق التسجيلي هو ثقافي في أقل تقدير تتمكن السينما من استثماره على نحو جيد، كما استثمرته السينما الروسية في أفلامٍ كثيرة وآخرها في فيلم “معركة ستالينغراد” وكما في أفلام تسجيلية كثيرة عن هتلر وألمانيا النازية ونابليون في غزواته الشهيرة وغيرهم من عتاة الأرض والزمن.

وفي الخطاب العربي التسجيلي السينمائي أبرزت السينما المصرية في كثير من أفلامها تسجيلات وبطولات الجيش المصري في قتاله ضد إسرائيل لاسيما العبور التاريخي لقناة السويس في حرب 73 وتدمير خط بارليف. وفي الجزائر يبقى فيلم “معركة الجزائر” مثالاً آخر على الفيلم الذي استثمر التسجيل الحي ووظفه درامياً وهو يعالج موضوع الاستعمار الفرنسي وأثره على الحياة الداخلية.

الأفلام التسجيلية تبقى ضرورات تاريخية جيلية تتعاقب على مدار الزمن كقصص واقعية

ومن لبنان أكثر من فيلم سارع إلى توثيق التسجيل الفيلمي وصناعته درامياً متناولاً الحرب الأهلية المريرة التي مر بها اللبنانيون في سبعينات القرن الماضي. ومن العراق أفلام قليلة سجلت ووثقت الاحتلال الأميركي لبلاد الرافدين وكان من الممكن أن تُوظّف هذه التسجيلات الحقيقية لصناعات فيلمية كبيرة، لولا وقوع البلاد في منظومة فساد سياسية كبيرة جداً.

 مثل هذه التسجيلات غير المقصودة أحياناً بعفويتها ومباشرتها، يمكن أن تشكّل انتفاضة ثقافية على المدى القريب والبعيد، فالأثر الذي تتركه حاضراً ومستقبلاً له من الأهمية ما يجعله شاهداً حقيقياً على مجريات وقائع أصيلة حدثت في زمنها ومكانها بشهودها الأحياء، لتكون علامة دالّة على وقائع فعلية جرت لا يمكن الاستهانة بها، وبمستطاعها أن تغذّي الفيلم السينمائي الدرامي بتفصيلات لا يستطيع أن يعيدها كما وقعت. بل تعزز من قوته وتفتح أمامه أفقاً واقعياً كشاهد فعلي لا يمكن أن يتجاوزه التاريخ الفني والجمالي.

ثورات الربيع العربي الجديدة وحتى القديمة منها التي أسقطت الأنظمة العربية الدكتاتورية، تُعد تسجيلات ثقافية نادرة بما تحتويه من لحظات انفعالية وطنية ومضامين ثورية قادرة على البقاء طويلاً. كما هي قادرة أن تُظهر وقائع الشعوب في لحظاتها الفريدة حينما تنتفض على السلطات والحكومات المركزية لأسباب اقتصادية وطائفية وسياسية عامة.