نهى الصراف تكتب:

عباس.. ابن تشرين

عباس؛ مسؤول نقل المؤن في مديرية الدعم اللوجستي لمتظاهري مبنى المطعم التركي.. هكذا يصفه مواطن صحافي بين الجد والهزل، بينما يحاول الحصول على إجابات لأسئلته من فم الطفل العراقي، حافي القدمين الذي يضع كمامة على وجهه ويفرك عينيه من أثر النعاس أو من بقايا الدخانيات المسيلة للدموع، التي تستخدم لتفريق المتظاهرين في ساحة التحرير وسط بغداد.

عرفت أن عباس في الحادية عشرة من عمره أو أكثر بقليل، جسده الهزيل وهو ينقل نظراته خجلا أو حيرة بين الكاميرا وعدته، من خلال صمته وهو يصادق على كلام الرجل الشاب الذي كان يصوره في مقطع فيديو وهو يرابط بالقرب من عمارة المطعم التركي الذي يسميه شباب الاحتجاج “جبل أحد”؛ المطعم التركي مبنى شبه مهجور يقع قرب ساحة التحرير اكتسب رمزية كبيرة من خلال إشرافه على الساحة الأكبر التي يعتصم فيها متظاهرو بغداد منذ أيام.

يضع الصغير قناني الماء والبيبسي وقناني الخميرة (المستخدمة لغسل الوجه والتخلص من آثار الغازات) والمستلزمات الطبية والأطعمة التي ينقلها الأهالي من المتبرعين إلى الساحة، لينقلها متطوعون ومنهم عباس، في دلو كبير مربوط بحبل يتم سحبه بوساطة الشبان المرابطين في الطوابق المتعددة للمبنى، وهو يقوم بهذه المهمة مع رفاقه من دون كلل أو تردد منذ أيام، يبيت في المكان ويصحو باكراً لمواصلة عمله في الدعم اللوجستي بعيداً عن منزل أسرته.

عباس الصغير خرج ورفاقه من رحم شهر أكتوبر الماضي، أيقونة للحراك الشعبي الذي يقوده شباب تتراوح أعمار أغلبهم بين 15 إلى 25 عاماً.

لغة أبناء تشرين ستواصل طرقها بالمسامير الساخنة على جدارية وطن مفطور بالحروب وممهور بصور سرّاق قوت الشعب، طرقات ستبقى شاخصة في ضمير العالم الغافي على خريفه

ولأن مزاج تظاهرات العراق ساخر بامتياز، فإنها وجدت متنفساً كبيراً لها عبر لافتات وشعارات مكتوبة بلغة بسيطة ساحرة، تحاول جاهدة الخروج من مأزق الحزن الذي يخيّم على المكان بين الحين والآخر لسقوط ضحايا بسبب الاختناق بالغازات أو نوع غير مسبوق من قنابل مسيلة للدموع، تخترق أجساد الشباب أو تصيبهم مباشرة في الرأس.

 يخرج خطاب المحتجين الأقوى والأكثر إثارة للإعجاب والدهشة في آن واحد، من دون أن يغرق في طابع سوداوي، كما هو الحال عندما يصدر عن الأشخاص الذين يتمكّن منهم الإحباط واليأس بعد معاناة طويلة. سخرية هؤلاء الشباب، مرحة طائشة ممهورة بروحهم النقية التي تبحث عن العبير في بقايا وردة ذابلة.. بسيطة وواقعية مثل أحلامهم الصغيرة وشعارهم “نريد وطن”، “ماكو وطن.. ماكو رجعة للبيت”، فتجيبهم الأمهات: “ماكو وطن ماكو طبخ”!

 لكن هناك تراجيديا سحرية، تسير بالتوازي مع لغة الخطاب؛ تراجيديا الفعل لصانعي هذه الاحتجاجات وروح الإنسان المقهورة فيهم، وهي تقارع مفاجآت الطريق وحسابات التاريخ.

جيل عباس، أبناء أكتوبر، سيقفون بوصفهم علامة تعجّب كبيرة في قلب التاريخ الذي باتوا يقيسون نبضه على مزاجهم ووقع أحلامهم ولغتهم البسيطة، وهي معرفة كتابة الأفكار ذاتها التي سبق فيها أجدادهم السومريون ممالك العالم القديمة ودوّنوا من خلالها تاريخ عكس أسلوب حياتهم ومعاملاتهم وآدابهم، بالنقش على ألواح طينية وحجرية أو باستخدام أنماط منحوتة بالخط المسماري الرمزي. لكنّ لغة أبناء تشرين ستواصل طرقها بالمسامير الساخنة على جدارية وطن مفطور بالحروب وممهور بصور سرّاق قوت الشعب، طرقات ستبقى شاخصة في ضمير العالم الغافي على خريفه.