وارد بدر السالم يكتب:
فن الشارع يرسم ملامح ثورة التحرير العراقية
فن الشارع، فن الغرافيتي لا يظهر إلاّ في مناسبات محددة الغاية والهدف كالتظاهرات والاحتجاجات والثورات التي تقودها الشعوب ضد سلطاتها. ومثل هذا الفن وليد لحظته. لا يعير الشروط الفنية أهمية كبيرة. فهو نتاج مباشر لحركة الثورات من دون خيال كبير.
في مثل الظرف العراقي الحالي توطدت صلة فن الشارع بالثورة العراقية على نحو واضح. واكتسب جماهيرية واسعة وهو يضع بعضا من مفردات الثورة الشبابية في نفق ساحة التحرير بطريقته العفوية.
التحق العشرات من هواة الرسم وطلبة أكاديمية الفنون الجميلة بجيل الثورة الشاب الذي هيمن على ساحة التحرير ونفقها الطويل وبرج المطعم التركي، في واحدة من ملامح التعاضد الاجتماعي والوطني والجمالي. وبعدما كان نفق ساحة التحرير مهملا لستة عشر عاما، أعاد هؤلاء الهواة والرسامون والرسامات الشباب الحياة له بصيغة جميلة وبارزة، عندما شغلوا كل مساحاته بالرسوم والشعارات بتعبيرية تلامس واقع الحال الثوري بمجمله، فازدهى بالحركة والألوان والصور والأصباغ التي أعادت له ملامح الجمال، واستعادت معه صورا كثيرة من صور البطولة الشبابية التي رآها العالم في ملحمة الصمود.
فعل جمالي
فن الشارع الغرافيكي ليس جديدا على الحالة العراقية، فهو نتاج اللحظة المباشرة برسم حر يراها العابرون من دون تخطيطات مسبقة، اجتهد فيه الرسامون كي يترجموا صور الصمود الطبيعي في مواجهة الغاز المسيل للدموع والقنابل الانفلاقية والصوتية.
وبقوا تحت وطأة هذا العصف اليومي لتحقيق فعل جمالي في نفق طويل يمرّ من تحت ساحة التحرير، كما لو أن الهوامش الصغيرة التحقت بالمتن الأكبر لثورة أكتوبر الشبابية في العراق، لتكون أيقونات لافتة في مسار الثورة الشبابية، باعتبار أن الفن لم يكن يوما ما هامشا أو هامشيا في حياة الشعوب؛ حتى البدائية منها؛ لكن مستويات هذه الثورة التنظيمية جعلت من الخطوط الخلفية لها مرسما حرا يمارس فيه الهواة والثوار على حد السواء التعبير المباشر والحر عن معطيات ثورة أكتوبر الناجحة حتى اليوم.
بعدما كان نفق ساحة التحرير مهملا لستة عشر عاما، أعاد الرسامون والرسامات الشباب الحياة له بصيغة جميلة وبارزة
ولذلك كله، تزينت ساحة التحرير ونفقها الطويل برسوم وبوستارات فطرية وعفوية ألمحت إلى وحدة النسيج العراقي بتلقائية بسيطة؛ كاشفة هواجس الشارع العراقي وهو يتطلع إلى الحرية وإعادة الوطن المخطوف من قبل السلطة وميليشياتها التي تشكّل خطا منفلتا من خطوط الدولة الفاشلة.
ومثل هذه الرسوم البسيطة لا تعنيها الكثير من التفاصيل الصغيرة، ولا منظور الفن وشروطه المفهومة، لكنها تضع الفكرة مباشرة أمام المارة بتعبيرية مباشرة يغلب عليها الطابع التحريضي والوطني الذي يرى أن نجاح هذه الثورة منوط بالجميع، بلا حساسيات طائفية سابقة، تلك التي كرّسها السياسيون وعملوا عليها طيلة ستة عشر عاما، ليشقوا وحدة الشعب إلى كانتونات صغيرة وضعيفة.
الفطرة الفنية قادت الشباب إلى تزيين ساحة التحرير ومحيطها ونفقها برسمات كثيرة ولوحات تكاد تكون بدائية وبوستارات محرّضة غطّت أغلب المساحات في هذه الزوايا، بتركيزها على الجانب الثوري والإنساني والوطني والشعبي والروحي العام الذي انتظم الجميع تحت سلطته الثورية، ليكونوا بموازاة الحدث الكبير الذي تمكن من حفر جوهر الوطنية في نفوس الجميع.
وبالتالي جاءت هذه المساهمات البسيطة، كاشفة عن وعي جديد في المجتمع العراقي الذي انتفض من دون نداءات حزبية ولا سلطوية، ليقرّر الكثير من الإجراءات الحاسمة التي شهدناها والتي سنشهدها لاحقا.
من الهامش إلى المتن
من يتأمل مثل هذه الشطحات العابرة التي رسمها طلبة وهواة وعابرون، سيكتشف أن الهامش صعد إلى المتن وصار بموازاته ورديفه في العبور إلى ضفة الثورة وأنّه بمنزلة إعلام جماهيري حرّ ومُوجّه إلى الشعب؛ ولا شك أن محاور الرسوم والشعارات كلها انصبّت على الوطن كجامع روحي عام بمفرداته الكثيرة: الإنسان الباحث عن جمال الحياة والعدل الاجتماعي وقيمته الفردية، المرأة بتحديها السلطة حينما خرجت من البيت والجامعة إلى ساحة التحرير بموازاة الرجل، “التُك تُك” التي عرف العالم دورها العجيب في المواجهات والصدامات وأغراضها المتعددة في حالات الثورات الوطنية، والعلم العراقي الجامع الأكبر للعراقيين بلا طوائف ومذاهب.
وتتعدّد حالات الرسوم والبوستارات والكاريكاتير المنفعلة التي تستقدم صورا من ساحة التحرير ومن الحياة اليومية في ظل الاحتجاجات الثورية كالغازات المسيلة للدموع كفعل سلطوي قامع، والقنابل الصوتية المزعجة التي يلقيها الطرف الآخر كحالة هستيريا تصيبه، والكاريكاتير السياسي الذي يرافق هذه الرسوم ساخرا من السلطة ورموزها، والتاريخ العراقي القديم كحاضنة أسطورية لا مفر منها.
وأيضا صور الشهداء الشباب كتذكير تحريضي ضد السلطة، والمطالب المشروعة والحقوق الطبيعية للشعب التي جسدتها لوحات الطلبة والهواة، والتهكم على رموز السلطة وبعض الشخصيات البرلمانية الضالعة في الفساد ونداءات بوستارية تطالب بمقاطعة البضائع الإيرانية التي أغرقت السوق العراقية.
وهذا فعل اقتصادي يرى العراقيون أنه لا بد من التصدي له لأنه استنزف ثروات البلاد وعطّل إنتاجها الزراعي، والإشارات المستمرة إلى منهج الفساد الذي ساد في عصر الميليشيات بأسماء قيادييها المعروفين والإشارة إلى هذه المشكلة التي سرقت البلاد والعباد وأوصلت الدولة إلى حافات الإفلاس.
وعلى إيقاع هذه المفردات الواقعية التي تتكرّر في البوستارات واللوحات العفوية المرسومة على الهواء الطلق، تمضي الاحتجاجات مسجلة أروع بلاغة في التضامن الشعبي وتاركة بصمات شعبية مؤثرة، بلا طوائف، بلا مذاهب، بلا أحزاب إسلاموية كارثية أوصلت الحياة العراقية إلى الحضيض وحتى أبعد من ذلك.