وارد بدر السالم يكتب:

السرد في الثورات العربية الجديدة

ليس من شك أنّ الثورات العربية الجديدة في لبنان والعراق والجزائر والسودان وما فيها من حراك شعبي واسع النطاق، تركت وستترك آثارها الثقافية والنفسية والاعتبارية على البنى الاجتماعية والسياسية على مستوى البلاد العربية كلها.

وما من شك في أن المراقب الأدبي (شاعرا ومسرحيا وروائيا وقصاصا وفنانا) سيبدو ضعيفا أمام هذه المنجزات الوطنية الحاسمة والمصيرية، وستبدو الكتابة أصغر من أن تحاول توثيق تلك المواقف فنيا مهما تمكّنت اللغة من الإحاطة بها. لهذا ستكون ضربا من المبالغة والمغامرة أيضا أن تكون الكتابة نقلا فوتوغرافيا خالية من الروح الأدبية وعن الواقعة الثورية عندما تفتقد شروطا جمالية معروفة، تحت وطأة الحدث، أبلغها خيال الكتابة وطاقة اللغة في استثمار هذه المنجزات المتعددة على الصعيد الوطني العام.

وبالتالي فإنّ آنيّة الكتابة الأدبية الإبداعية ستحتاج إلى وفرة زمنية غير قليلة كما يتفق نقاد السرد على وجه الخصوص. لذلك قرأنا ملاحم سردية عالمية كبرى في الأدب الإنساني كُتبت بعد مرور أزمان طويلة من وقائعها الحقيقية. كما في “الحرب والسلام” لتولستوي التي استغرق فيها الخيال جانباً منها مع أنها تروي قصة المجتمع الروسي. لكن العبقرية السردية “التولستوية” جعلت منها وثيقة مهمة على مر الوقت لتكشف صورة الحياة الروسية وطبقة النبلاء في عهد الحكم القيصري.

الزمن حاسم في تطويع الوقائع إلى وثائق فنية تصارع البقاء إلى أوقات غير معلومة، وما يحدث من حراك ثوري شعبي في البلاد العربية سيؤسس لمنظومة ثقافية جديدة وستدخل لعبة الزمن في هذه الأجواء التي ما تزال غير محسومة، لكنها مع كل هذا خرجت بمعطيات ملموسة أولها كسر حاجز الرهبة من السلطة، لاسيما في العراق الذي تهيمن عليه المؤسسة الدينية المتخلفة.

وهذا إنجاز طويل المدى بحد ذاته أخرج المجتمع من ظلمة هذه الهيمنة القاسية إلى نور الحرية وبهاء الحياة المدنية، في محاولة مشروعة لإسقاط النظام الديني السياسي المؤدلج قامع الحريات. وهذا إنجاز أولّي يُعدّ خروجاً من نفق أسود إلى مكتسبات مدنية تطالب بها الجماهير على مدار ثورتها. لذلك فأمام المبدع العربي؛ وهو المُثقل بالخيبات؛ شوط أو أشواط طويلة لاستخلاص النماذج الإنسانية الحيّة عبر شعاراتها الواضحة ومتطلباتها المقموعة ويكتب أسطورته السردية مع فكرة الزمن الدائرية والمتحولة من دون شروط مسبقة ولا نظريات مانعة، سوى من نظريات الإبداع المتفق عليها. تلك التي تحوّل الواقعة إلى أثر أدبي خالص بخلفية الإبداع الناجز.

إنّ معطيات الثورات العربية القائمة الآن قابلة لأن تتحول إلى وثائقية في الصورة الفيلمية. وهذا موضوع وقفنا عليه سابقا. لكن فكرة السرد أو الشعر هي فكرة الزمنية المطلوبة للإنجاز الإبداعي في تداعيات الأزمة واجتيازها لاحقاً للكتابة الحرة، التي تأخذ من الواقعة ملامحها الحقيقية وتطوّعها إلى أثر إبداعي يوازي قوة الفعل الميداني وصلابته. وهذا موضوع حقيقي حدث ويحدث، فتجارب الشعوب القديمة والحديثة التي مرّت بأزمات متعددة أعطت الكثير من الرؤى الناضجة للأدباء بأزمان متعاقبة، حتى أفرزت أشكالا أدبية ومضامين حيوية تدفقت في الكتابات الإبداعية على مر الوقت وإنضاج التجارب في الكتابة.

وهذا ممكن تشخيصه أيضا في العالم العربي الموجوع بالحروب والدكتاتوريات والانكسارات المعروفة، عندما ظهر أدب الحرب أو أدب المقاومة في فلسطين ومصر وسوريا والعراق ولبنان، وشكّل ظاهرة أدبية ثورية ليس من السهل غض النظر عنها، وتفاوتت أجيال الكتابة في التعاطي مع هذه الثيمات الحيوية لاسيما في سوريا والعراق وعلى مراحل متباعدة نسبياً بسبب الأوضاع السياسية القائمة في البلدين.

في هذا السياق ومع اندلاع الثورات العربية الجديدة لتصحيح مسارات ما يسمى بالربيع العربي السابقة سيبدو الأديب العربي أمام محنة الكتابة متردداً قياساً لعظمة الحراك الشعبي المتواتر، وهي محنة طبيعية لبلورة وإنضاج رؤيا الكتابة، ومثل هذا الإشكال يحلّه الزمن القريب أو البعيد. لكن ما هي مستلزمات الشروع في الكتابة عن حدث يجري بيننا وربما يستمر؟

نختلف في تعاطي الكتابة. ونختلف في تقييم المعطيات الأخيرة لكل ثورة أو ظاهرة احتجاجية واسعة، لكننا نتفق على مشروعية الثورات والاحتجاجات والتظاهرات الشعبية في بلادنا العربية. مثلما نتفق على أن الكتابات السردية هي الأكثر جدارة في توثيق مثل هذه الأحداث الاستثنائية الجديرة بالمتابعة والتحليل. وعلى وفق هذا نرى عن قرب أن الكتابة تبدأ من الرصد الشخصي الميداني. وتسجيل الحالات الفريدة. ربما يلفتنا الهامشي النائي الذي يغذي الثورة بحبلٍ غير مرئي. وقد يكون شعارٌ تحمله فتاة إيذاناً بفكرة طارئة. وكل ما صغر في الثورات له قيمته الخلاقة في تشبّع السرد بجذور صغيرة هامشية ستكون لها أهمية خالصة في معطى الكتابة لاحقاً.

بتقديرنا أن تسجيل الهوامش ورصدها والتماهي معها هي خيوط أولية لتشكيل سردية كبيرة تتلاحق بالتدريج لتكون نسيجاً متيناً، لا نقول يوازي الفعل الميداني، إنما يوازي الحلم المشترك بين الكتابة والفعل الأرضي المباشر. وهذا خاضع للزمن الروائي أولا في محاولته للتغلب على الزمن الميداني وإنْ بفترة لاحقة. حيث يمضي الميدان وتنتصر أو تفشل الثورات، لكن مدى الكتابة هو الذي يمضي إلى صيرورته وخلوده وبقائه المضمون، كما يحدث كثيرا في سرديات الحروب الكبرى التي أرّختها الروايات العالمية على وجه التحديد. وفي سرديات الثورات العربية التصحيحية سيكون للرواية دورها الأكيد في أرخنة هذه الوقائع الفريدة والتماهي معها جماليا.