محمد أبوالفضل يكتب:

عندما تصبح الانتخابات نقمة على النخبة السياسية

تحلم الكثير من الشعوب بأن تكون الانتخابات وسيلة لاختيار الطبقة الحاكمة وفرزا حقيقيا للنخبة الوطنية. عرف العالم أنماطا حضارية كثيرة ساهمت هذه الوسيلة في إطفاء الكثير من حرائقها السياسية. وخلال الفترة الماضية تبين من نماذج عدة في المنطقة أنها تمثل نقمة عندما تأتي بنتائج متفاوتة، ولا توجد قوة حزبية مهيمنة، بل يتم التحفظ عليها إذا افتقدت الإجراءات اللازمة لضمان النزاهة.

ولتقريب المسألة يمكن النظر إلى بعض التجارب التي بدت فيها الانتخابات منغصا وربما وبالا على أصحابها، ليس لأن هذه الوسيلة غير ناجعة لكن لأنها تسببت في مشكلات فاقت ما كان قبلها وخلقت أجواء قاتمة من التجاذبات.

في الأراضي الفلسطينية، هناك رغبة في إجراء الانتخابات المعطلة منذ سنوات. وقرر رئيس السلطة الوطنية محمود عباس الدعوة إليها بعد الانتهاء من المشاورات مع الفصائل المختلفة، بينما الحقيقة تقول إن ثمة صعوبات تتعلق بالتضييق الذي تمارسه إسرائيل في المناطق المحتلة. وإذا تجاوزنا ذلك، هل ستقبل فتح وحماس بالنتائج التي ستسفر عنها في ظل الخلافات والاستقطابات؟

كان من الممكن أن يصبح الاحتكام لورقة الانتخابات الفلسطينية مفيدا، لو اتخذت القوى الرئيسية إجراءات عاجلة لإنهاء الانقسام، والالتفاف حول رؤية متماسكة للتعامل مع التعقيدات الراهنة حيال العلاقة مع إسرائيل، وإيجاد مساحة للحوار مع القوى الإقليمية والدولية المعنية بدعم القضية الفلسطينية، والسعي لتخفيف الأزمات الواقعة على قطاع كبير من المواطنين الذين يعيشون تحت الاحتلال.

تهربت السلطة الفلسطينية وناورت فتح وراوغت حماس، ووقفت فصائل أخرى صامتة للتهرب من الاستحقاق الانتخابي، ولم يجد كل منها سوى التجاوب مع الدعوة الأخيرة كعملية سياسية قد تستغرق وقتا، لا كهدف سياسي يوقف الخلافات وينهي أزمة الشرعية. فالتدثر برداء الانتخابات يمكن أن يؤدي إلى تدمير ما تبقى من أحلام بالوحدة الفلسطينية، فلا أحد يريدها في الواقع ولا أحد يجرؤ على رفضها، وغالبا سوف تتسبب نتائجها في تصاعد اللغط لدى الطرف الذي يتصور أنها وسيلة للسيطرة بما يرفع معدل الارتباك العام.

يبدو الوضع أشد بؤسا في إسرائيل بعد إجراء انتخابات الكنيست ثم إعادتها، لا يستبعد أن يتم إجراؤها لمرة ثالثة. فقد أخفقت الأحزاب الرئيسية في التفاهم كي تشكل حكومة وحدة تنهي الأزمة الحالية. ولا يزال الأمر معلقا على سيناريوهات عدة، أحدها ينذر بخروج تظاهرات شعبية احتجاجا على الجماعة السياسية. وإذا دخلت إسرائيل حزام الانتفاضات الداخلية فيمكن أن تكون التكلفة عالية، مع التفرقة الحاصلة بين الفئات اليهودية، وارتفاع صوت المتطرفين، والظلم الكبير للفئات العربية.

لا يعني الانسداد الناجم عن نتائج الانتخابات عدم الثقة فيها، أو الكفر بها كمدخل صحيح للحريات. لقد عرفت إسرائيل هذا النوع من الورطات من قبل وتتغلب عليه عندما تجد الخطر داهما. فهي تدرك أن الشكل الديمقراطي وتوابعه السياسية من المزايا التي تتفاخر بها وتحاول عبره مداراة عنصريتها.

تعدّ التجربة التونسية واحدة من التجارب الرائدة في المنطقة، غير أن نتائج الانتخابات الأخيرة أفرزت فسيفساء مثيرة للاستقطاب السياسي. حيث أتت برئيس (قيس سعيد) من خارج المنظومة التقليدية، ترتبط به بعض المخاوف من جانب شريحة كبيرة من السياسيين والمواطنين، خوفا من الانحياز للتيار الإسلامي، أو الإخفاق في مواجهة الأزمات المتراكمة. وتتعرض الحكومة لمضايقات مزدوجة على صعيد نجاح الترويكا المنتظر أن تتشكل منها، وقدرة رئيسها الحبيب الجملي على تخطي العقبات التي تتناثر على يمينه ويساره. فضلا عن استبعاد حصولها على ثقة البرلمان بأغلبية مريحة ما يعرضها لاهتزازات قوية، ويجعل شبح إعادة الانتخابات مخيما على البلاد.

تواجه الجزائر مأزقا تتجاوز ملامحه ما يجري في تونس. فإذا كانت الثانية أجرت انتخابات حظيت بإشادات دولية كثيرة، فإن القوى التي خرجت إلى الشارع في الأولى ترفض الانتخابات الرئاسية في 10 ديسمبر بالصورة التي جرى تقديمها بها وتصمم على أن المرشحين الذين دخلوا السباق يعبّرون عن جوهر النظام القديم، الأمر الذي يضعف الثقة في نتائجها.

من المتوقع أن تفضي هذه الانتخابات إلى مشهد أكثر غموضا مما نراه الآن. مهما كان اسم المرشح الفائز سيكون هناك ما يشبه “الفيتو” عليه. وقد يثير المزيد من الغضب في الشارع الذي يصر على أن يكون التحول كاملا في البلاد، وليس مجرد تغيير في الوجوه، ويعتزم مواصلة الاحتجاج حتى تتسق نتائج التظاهرات مع المقدمات الإيجابية للتغيير. من هذه الزاوية ربما تتحول الانتخابات إلى فخ يضاعف من المشكلات ولا يساعد في حلها. ومرت الجزائر بتجربة قاسية في التسعينات عندما اكتسحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ الانتخابات في الدورة الأولى وألغيت دورتها الثانية، وكانت وقتها المؤسسة العسكرية قوية. على إثرها دخلت البلاد عشرية من الاقتتال الذي يخشى كثيرون الانزلاق إليه على وقع انتخابات مرفوضة مسبقا من شريحة كبيرة من الجزائريين.

قد يواجه السودان شبحا مماثلا عندما يحين الاستحقاق الانتخابي بعد ثلاث سنوات، مع توق الأحزاب السياسية له. فمنها ما يريد استعادة بريقه الغابر، ومنها ما يسعى نحو تكريس مجد جاءه على أكتاف الحراك الثوري، ومنها ما يعمل على تغيير الطبقة السياسية وخلق أخرى حداثية. علاوة على النشاط الحثيث في أقاليم طموحة لجعل تقرير المصير خيارا رئيسيا. وسط هذا الخضم من الطبيعي أن تفرز الانتخابات واقعا مربكا. ففي بلد مثل السودان يضم قوى سياسية حية وتطلعات بلا حدود يمكن أن تصحب الانتخابات معها حالة ملتبسة ربما يتمخض عنها انقلاب عليها.

المخيف أن الأزمة المصاحبة للانتخابات في النماذج السابقة تفتقر إلى القوة السياسية الرائدة. ففي الدول التي تحتكم لهذا المعيار ولا تواجه مشكلة عميقة لا يوجد هذا الطوفان من الأحزاب الهشة ولديها ثوابت يصعب الانحراف عنها، يلتزم الجميع بالعملية، بدءا من الترتيبات الأولية حتى النتائج النهائية، ثم يتم تدشينها على المستوى الرئاسي أو التشريعي، أو الاثنين معا.

يتنامى المأزق الذي تؤدي إليه الانتخابات أيضا مع تشتت الأحزاب السياسية، وشره قياداتها للسلطة، والإصرار على عدم التفريط فيها، لأنها تمثل الوجه الأمثل للحماية وضمان تراجع الملاحقات القضائية.

كما أن فئة كبيرة من المواطنين حصلت على مكاسب من وراء التظاهرات لا تملك مهارات تمكنها من تحويلها إلى واقع عبر الانتخابات، باتت تعترض على النتائج لمجرد أنها لم تجلسها على مقعد السلطة. وتزداد المسألة خطورة إذا وجدت من جرفتهم الاحتجاجات عادوا من باب الانتخابات، ما يجعلها وبالا على النخبة السياسية ومن عولوا عليها لحدوث التغيير. ويحتاج تجنب هذا النفق وقتا لبلورة قواعد تثبت الحكمة من الانتخابات، وعدم التفريط فيها كجزء محوري في العملية الديمقراطية.