وارد بدر السالم يكتب:
متى نكتب رواية الثورة
إشكالية الكتابة في أزمان الحروب والثورات جدلية وقديمة. نوقشت كثيرا بين المختصين من النقاد والمنظّرين الأدبيين. وكانت الآراء بشكل عام تلخّص فكرة الزمن الإبداعي على أنه كفيل بإنضاج تجربة الكتابة عن أي حدث استثنائي في حياة الشعوب. وأن الكتابة الفورية لا تستوفي شروطها الفنية، وبالتالي تقترب من الوثائقية الفيلمية من دون أن يكون لها رصيد إبداعي، سوى أنها تؤرشف الحدث؛ أو جزءا منه؛ على نحوٍ مباشر ولا تخرج قيمتها أكثر من هذا التوصيف.
وحتى مع التجارب العالمية التي تلهمنا معطياتها السردية بهذا الخصوص، سنجد فكرة الكتابة متأخرة عن زمنها وما كُتب في لحظتها لم يبقَ له صدى في نهاية الأمر. لكن قد يكون الشعر أكثر الأجناس الأدبية التصاقا بمثل هذه الأحداث الكبيرة، فهو شحنات لغوية وصور تتدفق وتتكثف لتصل إلى حدود خيالية في أغلب الأحوال ولا تصل إلى جوهر الحدث كما يفعل السرد.
الانتفاضة العراقية هيأت أجواء الكتابة مبكرا على ما يبدو، نظرا إلى قوتها الشبابية وإسقاطها للكثير من الأقنعة السياسية، وتفاعل المجتمع معها بأطيافه الدينية والمذهبية والقومية
ولدينا في العراق تجارب ماضية عمّا كُتب عن الحرب العراقية- الإيرانية في مجلدات كبيرة من قصص وأشعار وروايات، لكن لم يبقَ منه الكثير بسبب وثائقيته وتعبويته وانفعالات الكتابة الآنية التي كان الحدث أسرع وأكبر منها، لاسيما وأن الحدث هو الحرب الشاملة بكل معانيها، وما بقي من الكتابة عنها قليل جدا؛ وهو الذي لامس الشعور الإنساني الشخصي والعام بطريقة فنية كانت القصة القصيرة فيه أسرع استجابة من بقية الأجناس الأدبية، لكونها تمارس التقاط شحنات صغيرة من جبهات الحرب استطاعت إلى حد جيد أن تكون بنقاء إبداعي متميز. بينما بقيت الرواية عاجزة عن استثمار المساحة الزمنية الواسعة التي كانت فيها الحرب وما بعدها؛ وطافَ الشعر في حلقات لغوية ووصفية لا أكثر بالرغم من حساسيته الخيالية واللغوية والصورية.
وفي حدث يجري بيننا الآن هو انتفاضة الشباب، أو ثورتهم، أو تظاهراتهم، أو احتجاجاتهم. وتحت أيّ تسمية تشير إلى هذا الحراك اليومي الذي أسقط الحكومة العراقية حتى الآن، ثمة فرص كبيرة لاقتناص الأفكار السردية، عندما خرجت هذه الجموع الشبابية ومن خلفها لوجستيات كاملة ومتكاملة ما يمكّننا نحن السرديين من أن نرى بشكل مباشر تداعيات الموقف المتحدي ومعطياته الفورية على المستويين الاجتماعي والسياسي، وبالتالي يمكن “خزن” الصور الكثيرة التي نعيشها ونراها مباشرة من مناطق الأزمة التي يصورها الشباب وتنتشر في السوشيال ميديا، من دون الوقوع في فخ الكتابة وشروطها الصعبة.
الوقائع التي تجري نحسبها خلفيات عريضة للكتابة، والمَشاهِد المتسارعة هي اكتناز صوري متحرك لا يثبت على واقع حال بعينه. وهو المعين المقبل للكتابة السردية والقصصية بتحويل الصور والمَشاهد إلى فعل فني يتحرك سرديا لتثوير الحدث والإمضاء على الكثير من تفاصيله البيّنة والمستترة. حتى وإن مضت فترة ليست بالقليلة. ولنا في أراشيف السرديات الكبرى في العالم مثل هذا التأخير الزمني الموجب لاختمار التجربة وتبويبها فنيا، بدلا من الإسراع والتسرع في كتابة وقتية لا تصمد مع تطورات المعرفة الروائية بعموميتها. وكما قال صموئيل جونسون “ما يُكتب من دون جهد يُقرأ من دون متعة” والجهد هنا فكري وفني وجمالي خالص.
وفي هذا الإطار سنستوعب المقالات التي تُكتَب؛ وهي مقالات تحليلية تشد من عزم المتظاهرين؛ والقصائد القصيرة التي تُنشر بانفعالياتها الوطنية المقبولة نسبيا، وخواطر التحريض المفهومة التي لها فعل هامشي غير مؤثر كثيرا؛ لكن سيكون من الصعب استيعاب صدور رواية تواكب هذه التظاهرات وتتحدث عنها وتستنطق شخصياتها؛ حتى وإن كانت من زاوية واحدة وتستقدم تداعيات مكثفة لتوفير مساحة خيالية ترافق الواقع الاحتجاجي وأسبابه؛ فالمفهوم الفني والخيالي واللغوي سيكون حاجزا وعاجزا أيضا عن الإحاطة بهذا الحدث الشاسع والمتوزع على أكثر من اتجاه. فيه من السياسة ما يختلط بالتطرف الديني والطائفي. وفيه من الفساد ما يكفي لكتابة أطنان من الكتب والوثائق. لهذا ستبدو الكتابة السريعة غير المتأنية ضربا من ضروب الاستجابة الانفعالية غير الدقيقة لظرف وطني معقد ومأهول بعلامات الاستفهام وملفات الفساد الكبرى والشكوك السياسية التي أوصلت البلاد إلى أنفاق مظلمة.
حتى مع التجارب العالمية التي تلهمنا معطياتها السردية بهذا الخصوص، سنجد فكرة الكتابة متأخرة عن زمنها وما كُتب في لحظتها لم يبقَ له صدى في نهاية الأمر
فرضية الكتابة السردية عملية مضنية بلا شك. فمن تحويل الواقعة إلى هيكل جمالي بتقنية متقدمة يتطلب مشروعا سرديا ناضجا ومُحترَفا (صناعيا) وتخطيطا مسبقا، يستقدم المعارف التي تعزز الواقعة وتاريخيتها، كما يستقدم اللغة بوصفها معالِجا خياليا قادرا على هضم الإحداثيات السردية وزوايا الرصد الكثيرة لها، ومن ثم تهيئة المناخ الروائي وتقديمه إلى القارئ بكونه نصا متاحا للقراءة. بعد أن تكون مثل هذه العملية محكومة بزمنية مفتوحة لا علاقة لها بأصل الحدث وتوابعه الفرعية، سوى أنه “مادة” خام يتنوع عليها السرد وتتنوع عليها أساليب الكتابة.
الانتفاضة العراقية هيأت أجواء الكتابة مبكرا على ما يبدو، نظرا إلى قوتها الشبابية وإسقاطها للكثير من الأقنعة السياسية، وتفاعل المجتمع معها بأطيافه الدينية والمذهبية والقومية، مثلما أسقطت الهاجس الطائفي كليا وتخطت فوبيا الخوف الديني الطائفي وبدأت تنظر إليه على أنه السبب الأساسي في مشكلات البلاد والعباد، وهذا ما شجّع الكتابة الآنية سرديا، لكن تبقى معايير الكتابة الفنية والجمالية هي الحاسمة في تقبّل هذه المحاولات الروائية. مع سؤال أساسي: متى نكتب رواية الثورة؟