عمر علي البدوي يكتب:

التغيير في السعودية رسالة أمل لبقية بلدان المنطقة

بعد تراجع دور مصر ولبنان الثقافي والتنويري في عموم المنطقة، انتقل التأثير المركزي إلى الإقليم الخليجي تحديدا وزاد حجم فاعلية هذه البقعة الجغرافية، وتضاعف تأثيرها في المنطقة. وبعد أن كانت السعودية تلعب دورا محافظا لا يهتمّ بموقع الصدارة ولا قيادة الموقف رغم مركزيتها الدينية، فإن الظروف التي عصفت بالمنطقة حتّمت على الرياض أن تتقدم خطوات إلى الأمام اعتمادا على رؤية وليّ العهد الشاب الأمير محمد بن سلمان التي شملت جميع المجالات والميادين. وزادت شمولية الرؤية واهتمامها بكافة الجوانب من إشعاعها لتكون بارقة أمل للمنطقة ونموذجا يمكن الاهتداء به للخروج من أقبية التشدد والانغلاق للالتحاق بركب العصر والتحديث.

يشكل قرار وخيار التغيير في السعودية تأثيرا واسعا يتجاوز حدودها إلى محيطها الإقليمي وربما الدولي، والفضل في ذلك يعود إلى مركزيتها الدينية والثقافية والجغرافية، بمعنى أن تفضيلاتها المحلية في الشأن الديني أو السياسي أو الثقافي سيكون لها مردودها على بقية المنطقة، وتأثيرها في السيرورة التاريخية التي تخيّم في سمائها وتشكل مستقبلها.

المستقبل، في واقع الحال، هو رهن الخيارات الكبرى التي تُتخذ الآن، وراهن المنطقة في يد العواصم ذات القرار المؤثر، مجتمعة كانت أو منفردة، لأن حالة التيه والانسداد الذي يعاصره العرب، سيؤول إلى نتيجة ما، وإذا لم تشارك العواصم العربية المهمة في صناعته – لاسيما تلك المتصلة بهوية المنطقة وشكل اللاعبين النافذين في قلب معادلاتها المحلية – ستبقى في أسر الخيارات الخارجية المستقوية بضعف العرب وإحجامهم.

لقد كانت مصر محور العالم العربي، ينتشر تأثيرها الثقافي والتنويري في عموم المنطقة، بفضل ما تمتعت به من نهضة سبقت إليها بقية الأقطار العربية التي كانت متأخرة وربما متخلفة، وكانت القاهرة تمدهم بالكفاءات التعليمية والصناعية والعسكرية والسياسية، لكن ولظروف مجتمعة، تراجع الدور والتأثير المصري، ولعلها ستستعيد ذلك قريبا بعون أشقائها العرب والخليجيين تحديداً، رغم كل التحديات الشاقة والمشكلات المترسبة في عمقها المحلي التي تقتضي الصبر والانتظار الطويل.

خيار التغيير في السعودية يفعل ما يشبه الإنعاش للمنطقة، لاسيما أن القرار جاء شاملا وعارما، واستهدف كل المجالات

وكذلك كان لبنان في لحظة ليست بالبعيدة من التاريخ، منارة ثقافية، تشع منه أنوار الحضارة، ويضخ الكفاءات في كل الخارطة العربية التي لم تكن بعد قد قامت لها قائمة، ولكن التأثير اللبناني هو الآخر انحسر وتراجع.

انتقل التأثير المركزي، إلى الإقليم الخليجي تحديدا، زاد حجم فاعلية هذه البقعة الجغرافية، وتضاعف تأثيرها في المنطقة، السعودية كانت تلعب تاريخيا دورا محافظا لا يهتمّ بموقع الصدارة ولا قيادة الموقف، رغم مركزيتها الدينية على أساس أنها حاضنة الحرمين الشريفين بكل حمولاتهما التاريخية والمعنوية، لكن السعودية لم تهتم بأكثر من لعب دور مساند أو وازن في كل المفاصل الحادة التي اعترضت المنطقة.

لكن الظروف التي عصفت بالمنطقة، حتّمت على الرياض أن تتقدم خطوات إلى الأمام، إلى المركز في معادلة التأثير، وزاد ذلك من إشعاع الخيارات التي تتبناها بما ينعكس بصورة مباشرة أو غير مباشرة على المحيط الإقليمي، فضلاً عما له من صدى في الحيز الدولي والعالمي.

لقد كان الدور منتظرا من السعودية، لأمرين، أحدهما من واقع مركزيتها في الوجدان العام، والآخر لأن الكثير من تلك المنارات العربية أظلمت وتراجعت، وأصبح دورها قاصراً عن التأثير، وكادت سماء المنطقة أن تتلفع بالسواد، فيما واقعها يغوص في هاوية من التراجع الذي يشبه السقوط الحر في كل المجالات.

ويفعل خيار التغيير في السعودية ما يشبه الإنعاش للمنطقة، لاسيما وأن القرار جاء شاملا وعارما، واستهدف كل المجالات، ولا بد أنه سيترك تأثيرا، قد لا يرقى إلى انتشال المنطقة من وهدتها، لأن لكل بلد شروطه الموضوعية بشأن النهضة المحلية.

تتعاطى السعودية اليوم بنمط من الاعتدال في مقابل التشدد، بعد أن كانت رياح التطرف تعصف بالمنطقة، وكانت كل الحلول عاجزة دون مراجعة التراث الديني الذي تحتفظ السعودية بأحد نماذجه ونسخه الأكثر عراقة، وتتبنى الصيغة السعودية اليوم مفردات أكثر انفتاحاً وتجدداً وتراهن على المكون الوسطي في المحتوى الديني الذي تنشده وتتعامل على أساسه.

سيلعب هذا دوراً عريضاً في تفتيت بنى التشدد التي انعكست على الكثير من المجالات، ففيما يتصل بشأن المرأة مثلا، سيكون حقها في المساواة والتمكين عاليا ومرتفعا، بفضل الفرص الواسعة التي حصلت عليها المرأة السعودية، ولأنها تعيش في منطقة جغرافية تشكل النبع الاجتماعي لكثير من المحيط العربي، سيساعد خلق النموذج في توسيع رقعة التماثل والتأثير، ولعل مثال قرار السماح للمرأة الإيرانية بالدخول إلى ملاعب كرة القدم بعد أن كان محرماً ويعرّضها للمحاكمة، جاء بتأثير وإيحاء من جارتها السعودية بعد أن سُمح للمرأة فيها منذ فترة قصيرة بأن تشارك الجمهور في ملاعب كرة القدم.

وعلى هذا المنوال سيكون تأثير وامتداد الخيارات السعودية في بقية القطاعات والمجالات، وفي دفع الدول المشلولة أو المحتبسة في أقبية التشدد والانغلاق أن ترخي قبضتها، وتنسجم مع تيار السلم والعصرنة والتحديث، والتخفيف من وطأة التوتر والفوضى والانفلات التي تضغط على المنطقة وتفوّت الكثير من الخير على أجيالها.

فضلاً عن الخيارات الدينية والثقافية والاجتماعية، سيكون لزيادة حيوية العمل الرسمي الذي اتخذته السعودية اليوم تأثير على بقية دول وحكومات المنطقة في وجه الشلل العام الذي كان يكسوها، وتسبب في خلق اضطرابات واحتجاجات واسعة انتهت إلى وجوه مختلفة من الشقاق والحرب الأهلية وخراب المدن والحواضر العربية.

وكان لا بد لهذا أن يتوقف، وأن تعيد الحكومات والأنظمة الرسمية القائمة والمستحدثة النظر في طبيعة عملها وواجباتها تجاه مجتمعات جديدة متطلبة وساخطة على عجز الحكومات عن تلبية حاجاتها المختلفة.

كما أن زيادة الجهد السياسي الذي تبنته عدد من العواصم الخليجية بقيادة الرياض وأبوظبي، سيكون له فضله الإيجابي على المنطقة، وسيزيد من تحصينها من المشاريع الإقليمية الجارة التي تستهدف إضعافها وإنهاكها واستنزاف ثرواتها.

الدور المهم الذي تتبناه كل من الرياض وأبوظبي مهم في مقاومة الاختراق الخارجي، وكذلك قرارها الجاد لمحاربة الفساد في شكل حملات قاسية على أباطرته أو تنظيم قوانينه المحلية، فضلاً عن سعي حثيث ودأب جاد لتوطين عمليات التصنيع العسكري وأنظمة وبرامج ومعارض السلاح، التي ومع الوقت ستكون ذات شأن في زيادة تحصين المنطقة من ابتزاز القوى الكبرى وعبثها بمستقبل المنطقة وأمن شعوبها.