سعد القرش يكتب:
"ممالك النار".. عصا موسى تذكّر بجريمة ضد الإنسانية
دأبت تركيا عبر المسلسلات التي تنتجها إلى تقديم قراءة مجتزأة ومحرفة للوقائع والأحداث التاريخية، في مسعى منها لتبييض وتلميع صورتها، لهذا تقابل أي قراءة مغايرة للتاريخ العثماني بحملات إعلامية غاضبة وهجوم على الجهة التي تقدم تلك القراءة كما لو أنها قد اخترقت محظورا دوليا أو نصا دينيا. وقد واجه المسلسل العربي “ممالك النار”، هذا الهجوم لأنه نبش في التاريخ العثماني ونسف الأساطير والأوهام التي روّجت لها المسلسلات التركية، مثيرا بذلك جدلا كبيرا لدى عموم المشاهدين وفاتحا أبواب نقاش حول جرائم العثمانيين في مصر وعموم المنطقة.
لا تنتهي الشظايا الناتجة عن قذيفة المسلسل التلفزيوني «ممالك النار»، حتى بدا لعموم المشاهدين أقرب إلى عصا موسى تبطل أكاذيب مدرسية، وتنسف أساطير وأوهاما روّجت لها مسلسلات تركية أنفق على إنتاجها ببذخ.
المسلسل مثل أيّ فن هو رؤية وليس تأريخا، ولكنّ للفنون سحرا خاصا يفتح لها طريقا إلى مخاطبة الوجدان، واستعادة لحظة بمباهجها ومآسيها كأنها تقع الآن والمشاهدون يتورطون فيها، ويتماهون مع طومان باي، حتى أن البعض أعلن عن أدائه عمرة يهب ثوابها إلى شهيد شنقه الغازي سليم الأول المطارد بلعنة دماء المصريين، ولم يكن مضطرا إلى قتل عشرة آلاف نفس بعد الغزو، ولكن من ينشأ على استباحة الصعود إلى الكرسي على جثث إخوته، لا يتردد في ارتكاب ما يصنف الآن جريمة ضد الإنسانية.
لم أتحمس لمشاهدة المسلسل؛ لإيماني بأن ما ينتج من فنون بدافع الثأر أو التمجيد يكون مباشرا وموجّها ومنزوع المصداقية. وحين رأيت ردود الأفعال من مستويات متنوعة، لا تتفق إلا على “وجيعة” أو “حقيقة”، أدركت خطئي، وكان المسلسل قد انتهى عرضه تلفزيونيا، ويواصل كثافة المشاهدة على يوتيوب، ولم يخرج منه المشاهدون كما دخلوا. دخلوه مطمئنين أو محايدين، وانتهوا منه قلقين يحملون أسئلته، ويدورون بها على المصادر، ويختبرونها لدى المؤرخين، ويغرقون في أضابير الإنترنت ومتاهاته التي تضل وتهدي.
أحدث المسلسل انشطارات أعمق أثرا مما خطط له صنّاعه، بإثارته للجدل، وتحريكه للمستقر، وفتحه لأبواب النقاش على ما هو أكثر من جرائم العثمانيين في مصر، وخصوصا هوية مصر، وما إذا كان المماليك جزءا من تاريخها، أم كانوا غزاة أنهى حكمهم عدوّ آخر، أكثر منهم استجابة لطبيعة عصره؟
المسلسل أحدث انشطارات أعمق أثرا مما خطط له صناعه، بإثارته للجدل، وتحريكه للمستقر، وفتحه لأبواب النقاش على ما هو أكثر من جرائم العثمانيين في مصر، وخصوصا هوية مصر، وما إذا كان المماليك جزءا من تاريخها، أم غزاة أنهى حكمهم عدو آخر، أكثر منهم استجابة لطبيعة عصره؟
ما يمكن الاطمئنان إليه أن المصريين لم يطلبوا إلى السلطان تخليصهم من المماليك، ولم يكن بينهم أيّ سلف لمن قال عام 1942 «إلى الأمام يا روميل»، ليستبدل احتلالا نازيا بآخر بريطاني.
الأخطر من هذا كله هو قدرة المسلسل على كشف وجهين لعبودية مختارة، تتلخص في استلاب نفسي وفكري لدى قطاع، كدت أخطئ وأقول “قطيع”، يضم باحثين يعطون صفة “الفتح” لقوة غازية، كما يشمل مساكين إمامهم يوسف القرضاوي رئيس ما يسمى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
هذا شيخ لا يرى رغم تجاوزه التسعين، وربما بسبب هذا التجاوز، أن تركيا هي أكبر حليف اقتصادي وعسكري للعدو الصهيوني، ولكنه يواصل الرهان على الخليفة رجب طيب أردوغان في قيادة المسلمين، بزعم أنه “الذي يحمي الأمة الإسلامية (تصفيق تتبعه حماسة قرضاوية)، والله أقولها حقيقة، الرجل الذي يحمل همّ الأمة الإسلامية في كل مكان هو أردوغان”. وقبل الانتخابات الرئاسية التركية عام 2014، حسم القرضاوي فوز أردوغان؛ “لأن الله معه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير”.
صرفني عن مشاهدة مسلسل “ممالك النار” ظنٌ استباقي بأن يكون سلاحا في خلاف قائم، مؤقت بالطبع. وأرى أن تنأى الكتابة والبحث التاريخي والفنون عموما عن الاستجابة الانفعالية للتشاحن السياسي؛ لأنه عارض ينتهي بزوال أسبابه، وتبقى الكتابة والفنون سجلا لا يطوى، بل يطارد ضمائر أصحابه، يدينهم ويرميهم في موقع شهود الزور. ويختلف هذا عن بحث قضايا إنسانية أسمى من الاستثمار في الكيد والضغط السياسي.
في مقال عنوانه “المزاج الشعبي لا يخطئ كثيرا حين يلتقط الشفرة”، منشور في صحيفة “العرب” في 11 أغسطس2015، ذكرت أن السفاح سليم ارتكب “جريمة حرب”، بقتل أكثر من عشرة آلاف مصري، ولم يجدوا من يدفنهم، “فصارت جثثهم مرمية على الطرقات”، كما روى المؤرخ ابن إياس الحنفي. وقلت إن تلك “جريمة أخرى ضد الإنسانية تحتاج إلى من يحرك هذا الملف”. وفي 20 فبراير2018 نشرت مقالا عنوانه “مصر تكرّم الغزاة.. قمبيز والسلطان سليم مثلا” سجلت تسويغ شيخ الإسلام “علي زنبلك” شرعية غزو مصر بفتوى دينية مشبوهة هدّد سليم بها طومان باي تهديدا لا يحتمل التأويل بأن “الله تعالى قد أوحى إليّ بأن أملك الأرض والبلاد من الشرق والغرب كما ملكها الإسكندر ذو القرنين”. وحظي سليم الأول بشارع في القاهرة.
لا تتردد الضمائر الحية في مراجعة أخطاء الأسلاف والاعتراف بها، تطهرا وإبراء للذمة. فهل تفكر مصر في إثارة جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، ما دام للمجرمين ورثة يتباهون بتاريخهم الدامي، كما تفعل تركيا؟ لا أظن منسوب الإرداة السياسية الآن يسمح باتخاذ هذا الإجراء القانوني، بعد التراخي في قضية شهودها ومجرموها أحياء، وتخص ارتكاب العدو الصهيوني جريمة حرب في حق الأسرى عام 1967. القضية أثيرت في تسعينات القرن العشرين، وتجددت عام 2007 بعد بث التلفزيون الإسرائيلي فيلما تسجيليا عنوانه “روح كاشيدا” تضمّن قتل 250 جنديا مصريا بعد هزيمة 1967 على أيدي إسرائيليين. وما فعلناه أننا طالبنا المجرم بموافاتنا بنتائج التحقيق في الجريمة.
تغني عن العجز السياسي أحيانا قوة الإدانة الشعبية، ونجح مسلسل “ممالك النار” في إيقاظ الذاكرة، وتجسيد وحشية جنود السفاح سليم، وقد وصفهم ابن إياس بأنهم “همج كالبهائم”، نهبوا الممتلكات، وأشعلوا النيران في المساجد والمنازل، وأرسوا قاعدة فداء الأنفس بالمال، بخطف “أولاد الناس” من الطرقات والبيوت ومساومتهم، “فيقولون لهم اشتروا أنفسكم منا من القتل”.
وبعد النهب العشوائي والمنظم، بدأ تفريغ مصر من مخزونها الثقافي والفني والمهني، بأسر نحو ثلاثة آلاف من المتخصصين المهرة في أكثر من خمسين حرفة: وراقين وخطاطين ومجلدين ومذهبين وبنائين ونقاشين ومزخرفين ورخامين ونجارين ونحاسين وحدادين وزجاجين ونساجين وصباغين. وبعد أسرهم جرى ترحيلهم إلى إسطنبول، مع منهوبات من المخطوطات، ومنقولات من تراث القاهرة المعماري، وحملت آلاف الجمال إلى عاصمة الغزاة أبوابا أثرية وشبابيك ومشربيات من العمائر والمساجد والوكائل.
من يشعر بحنين إلى الغازي ويفخر باحتلال أجنبي لبلاده فإن عليه مراجعة وطنيته ووعيه. أما الخيلاء التركية فيمكن تفسيرها في ضوء عقدة نقص تاريخية تتماس مع تجارب لاحقة تجسدها الولايات المتحدة وإسرائيل، وليس مصادفة أن الثلاثة حلفاء.