محمد أبوالفضل يكتب:
تركيا تسعى بكل الوسائل لقطع طريق مصر إلى ليبيا
تعزف الآلة الإعلامية الإخوانية لحنا واحدا لاستفزاز مصر والاستفادة مما يشبه التردد للتدخل العسكري في ليبيا، وحرف القاهرة عن مسار التصعيد التركي وتوابعه المختلفة، بإثارة اللغط عبر حديث عن تدخل فعلي في الأزمة وبث صور مزورة لجنودها في ساحات القتال، والترويج بأن دولا إقليمية تحاول الزج بها في مستنقع ليبيا، أو الزعم بأنها سعيدة بالاتفاقية البحرية مع حكومة طرابلس.
يبدو القاسم المشترك بين هذه الأحداث، هو تخريب العلاقة بين مصر والشعب الليبي، وبين الدول الحليفة والصديقة لها في شرق البحر المتوسط، والسعي لوضعها في خانة العدو بدلا من تركيا التي تطوّع كل شيء أملا في السيطرة على مقاليد الدولة الليبية، والغاز في منطقة شرق المتوسط، بالتالي شغل القاهرة في حروب ومشكلات جانبية بعيدة عن المعركة الرئيسية التي تستعد لها تركيا في ليبيا.
تخرق أنقرة توازنات الجغرافيا السياسية. ترسل الإرهابيين والمرتزقة والمعدات العسكرية. تعقد الصفقات البحرية والأمنية مع حكومة الوفاق. وتعمل كل ما في وسعها لتكون لاعبا إقليميا وحيدا ومؤثرا، بلا ضوابط أو احترام للقوانين الدولية.
تقوم جماعة الإخوان بعملية متقنة للفت الأنظار بعيدا عن العدوّ الحقيقي (تركيا) وتركيزها على “العدو المفتعل” (مصر)، أملا في تجهيز المسرح لتدخلات أنقرة غير المشروعة وتبرير الموافقة الرسمية على إرسال القوات إلى الأراضي الليبية.
لم ينكر النظام المصري تأييده للجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر، ويتبنى موقفا صارما ضد الميليشيات التي يدعمها رجب طيب أردوغان. ويرفض التدخلات الخارجية من النوعية التركية. لذلك وجدت حملة الشائعات الجديدة التي تستهدف الزج بالقاهرة في المعارك العسكرية صدى إيجابيا لدى قطاعا غالبيته من أصحاب التوجهات المؤدلجة والمتشددة، وطربت له، وبدأت تسويقه على نطاق واسع.
يعتقد أصحاب الدعاية السوداء أنها كفيلة باستمرار تردد مصر وكبح كل الأفكار التي تراودها لدخول الحرب مباشرة في ليبيا في أي لحظة، وتهديدها بأنها ستدخل مواجهة قاسية مع التنظيمات المسلحة في طرابلس. لن تصلح معها وسائل القتال النظامية، بعد تدفق أعداد كبيرة من الإرهابيين الوافدين من سوريا إلى ليبيا، وجرى حملهم على سفن وطائرات تركية أخيرا.
ويضعنا النموذج الليبي بكل تفاصيله في مشهد جلي لحقيقة الصراع وطبيعة المواجهة بين مشروع التنظيم الأممي الموحد الاستهداف والمتكامِل الأدوات والخطوات، ومشاريع المواجهة القُطرية متفرقة المنبت ومتعددة الأغراض.
وقال عبدالجليل الشرنوبي، الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، لـ”العرب”، “لا مجال للدهشة أمام سفور المساعي التركية الرامية لدعم الحضور التنظيمي الإخواني في ليبيا، وعلى من يندهشون أن يلوموا حساباتهم التي وصلت بالحال إلى المآلات التي يستهدفها التنظيم منذ استثمار حضوره في مشهد الربيع العربي”.
وأضاف، أن تسارع خطوات المشروع الإسلامي في ليبيا ليست مُحصلة للسير بخطة التنظيم الأُممية واستدراكا لمستجدات المشهد في المنطقة، ومن التهوين لحجم التهديد الآني أن يتم ربط تطور الأحداث بطموحات أردوغان فقط التي تتقاطع مع أهداف التنظيم، ما يفرض على مصر والدول العربية البحث عن خطة إنقاذ متكاملة تقطع المجال على صيد التنظيم الدولي للإخوان في الماء العكر بفعل تعدد وتباين الأهداف.
المشرق والمغرب
زادت الشائعات الإخوانية التي تلاحق مصر، مصحوبة بسياسة تخويف متقنة ومتباينة كي يتسنى للجماعة ترتيب أوراقها. ولجأ خطاب القيادات المحسوبة عليها إلى استنفار دول الجوار حيال أي تدخل مصري متوقع لخلق فتنة أخرى قد تقلل من تسليط الأضواء على التحركات التركية في ليبيا، وتضاعف من الشكوك المغاربية في نوايا التوجهات السياسية للقاهرة.
تعاملت حكومة الوفاق بطريقة انتقائية مع بيان جامعة الدول العربية بشأن ليبيا، الثلاثاء، حيث شكر محمد سيالة وزير خارجيتها، وزراء خارجية دول قطر والسودان والمغرب العربي، على موقفهم الداعم لليبيا خلال اجتماع المندوبين الدائمين بالقاهرة، لضرب ما تبقى من مصداقية لها، وأن ثمة معسكرين عربيين في المشرق والمغرب، وصولا للإيحاء بأن رؤية مصر لا تحظى بدعم عربي كبير، واللجوء إلى الجامعة العربية لن يوفر لها غطاء سياسيا أو عسكريا.
يتخوف التيار الإسلامي في ليبيا من التدخل العسكري المصري، لأنه يعلم حجم الخسائر التي سوف يتكبدها حال حدوث ذلك، بسبب عوامل الجغرافيا التي تميل لصالح مصر، وفهمها التركيبة الاجتماعية وتشابكاتها القبلية.
وتعلم تركيا أن دخول القاهرة بثقلها العسكري في الوقت الراهن قد يقطع عليها الطريق لاحقا، أو يضع المزيد من العقبات والتحديات، ويقلل من تحقيق الأهداف العاجلة التي حملتها مذكرتا التفاهم البحري والأمني مع حكومة الوفاق. لم يجد هؤلاء سوى شن حملة دعاية واسعة تثير هواجس الليبيين، وتفرض عليهم الاصطفاف ضد مصر، وتفتح الباب للتشكيك في نواياها أمام المجتمع الدولي الذي تطالبه دوما بالبحث عن حل سياسي للأزمة، بينما تجهز جيشها في حملة عسكرية واسعة.
تركيا تعلم جيدا أن دخول القاهرة بثقلها العسكري في الوقت الراهن قد يقطع عليها الطريق لاحقا
يرمي هذا الاتجاه إلى حرف الأنظار الإقليمية والدولية بعيدا عن المؤامرة التركية المتكاملة، والتركيز على ما يمكن أن تقوم به مصر التي يتمسك خطابها المعلن حتى الآن بتغليب التسوية والحلول السلمية، ويرفض التدخلات العسكرية الخارجية، وأبرزها التركية.
يحمل استمرار السيناريو الإخواني لاستفزاز مصر وتكريس ترددها وعدم تحريك قواتها خارج حدودها في مهام عسكرية إقليمية، الكثير من العلامات التي تصبّ في صالح تركيا، وأهمها تمكينها من أن تكون دائما القوة الصلبة الوحيدة في المنطقة القادرة على الحسم، وتقرير مصير الشعوب.
تتبنى القاهرة خطابا معتدلا قد يكون محيرا للبعض. فكيف تتعامل بهذا الهدوء مع أزمة تطرق أبوابها وتهدد بقوة أمنها القومي؟ ولماذا لم تلجأ إلى التدخل العسكري لحل المشكلة قبل أن تتفاقم مع وصول القوات التركية، برا وبحرا وجوا؟ وما هو التصرف المنتظر، في حالة قيام أنقرة بإرسال بوارجها وطائراتها وصواريخها إلى ليبيا؟
هذه مجموعة من الأسئلة تدور في ذهن الكثير من المتابعين، وتحتاج الإجابة عليها فهم الاستراتيجية التي يتبناها النظام المصري حاليا، ويتعامل بموجبها مع المعطيات الإقليمية الساخنة والتي قد لا تجعله في مأمن طوال الوقت.
خيارات متفاوتة
قرأ المراقبون عن كثب لتحركات القاهرة هذه المعطيات في ضوء أن القوى التي تضررت من إسقاط نظام الإخوان المسلمين في مصر لن تقبل الهزيمة بسهولة، والجماعة نفسها لم توقف لحظة ألاعيبها، فإذا رفضت الحسم العسكري في ليبيا بمعرفتها ستقوم تركيا بالمهمة لصالحها. وقتها سوف يكون الإرهابيون على حدودها الغربية مباشرة وبصورة أكثر تنظيما.
ظلت ليبيا هي الأزمة المركزية في الخاصرة المصرية، لأنها على مرمى بصر، وغالبية العناصر التي ظهرت بصماتها في عمليات إرهابية كثيرة وفي مناطق متفرقة في البلاد جاءت من الحدود الغربية، ومن الضروري كسر شوكتها هناك. وكانت هناك ثلاثة خيارات متاحة، ورابع مؤجل، لن يتم استخدامه إلا في حالة الاعتداء المباشر على الأمن المصري.
الأول: حث المجتمع الدولي على التخلي عن حربه الانتقائية مع الجماعات الإرهابية، وخوض حرب شاملة على كل المتطرفين دون انتقائية. وتعثر هذا السيناريو، بفعل فاعل، وكأن هناك من يريدون عدم انتهاء هذه الحرب في ليبيا، وتوفير الحجج لتستمر في حلقاتها المفرغة.
الثاني، حض القوى الإقليمية والدولية على تبني مشروع متماسك للتسوية السياسية. وفي كل المبادرات التي طرحت، بدءا من باريس وباليرمو وأبوظبي، وحتى محطة برلين التي لم تكتمل، كانت تركيا وأزلامها في حكومة الوفاق أول العابثين بالحل السياسي. وتدور في فلكهما قوى أخرى. وكلما لاحت بوادر للتسوية عملت أنقرة على نقضها بشتى السبل.
الخيار الثالث: تغليب الحل العسكري للتعامل مع الميليشيات التي تجيد الكر والفر من خلال تحالف إقليمي-دولي. لم يجد هذا السيناريو آذانا صاغية على الصعيدين،- في ظل رغبة البعض في استمرار المعارك حتى تنهك أطرافها الرئيسية، أو إيجاد أمر واقع يجعل من التقسيم طريقا وحيدا، بما يحقق مصالح بعض القوى التقليدية المتصارعة.
أما الخيار الرابع المؤجل، فيتعلق بتدخل مصري عسكري بمفردها. ولم يبد مسؤول واحد دعما صريحا لهذا الخيار على مدار السنوات الماضية. وعملت أجهزة الدولة على استبعاده، وسد القنوات الواسعة التي يمكن أن تفضي إليه، كلما حاول البعض التلويح به.
تتعامل القاهرة مع حملة التحريض الأخيرة بقدر كبير من الثبات والحرص أو كمن يدرك أن هدفها دحر الجيش المصري الذي أصبح القوة النظامية العربية الوحيدة في المنطقة، بعد أن مرت بعواصف متعددة، ونجا بأعجوبة من الكمائن التي نصبت له داخليا.
إذا أرسلت تركيا قواتها فعلا إلى ليبيا لن تصمت القاهرة بالتأكيد وسوف تتعاطى معها بالطريقة التي تتعامل بها مع الإرهابيين والعصابات المسلحة وفلول المرتزقة حاليا، وتترك مهمة المواجهة العسكرية الرئيسية للجيش الوطني الليبي الذي سيكتسب المزيد من التعاطف الدولي، لأنه يواجه قوات غازية.
وقد تجدها القاهرة فرصة لتحويل ليبيا إلى مستنقع حقيقي وليس نزهة لتركيا. فقد كانت حربها في سوريا سهلة بحكم ضوابط الجغرافيا، وفي ليبيا سوف يصبح الوضع مختلفا. الأمر الذي جعلها تفكر أولا في إرسال طليعة من المرتزقة والمتشددين الذين ينفذون أوامرها. من هنا تبدو حملات التحريض الإخوانية هدفها الردع وليس الجر.