سعد القرش يكتب:
هولاكو وشعب 25 يناير 2011 المجيد
منعا لأي التباسات في أجواء التربص والشكوك، ينبغي إيضاح أن لفظ “المجيد” في العنوان لا يخص هولاكو، وإنما هو صفة لثورة 25 يناير 2011، والشعب العظيم الذي راهن على تغيير لم يكتمل، وإن كان الزلزال الذي استمر 18 يوما قد هز جبلا راسخا، وأحدث تصدعا وعواصف وستائر من الغبار، وأخرجت ارتداداته أنواعا من الهوامّ كانت مختبئة من الجحور، ولم يخلقها.
ورغم حملات التشويه طوال تسع سنوات، لا يزال حدث 25 يناير يؤرّقُ الخائفين من الحرية، فيتفادون ذكره إلا مقترنا بهدم الدولة، ويحشدون لذكراه فريقا من محدودي الموهبة، وهم كَتبة وساقطو قيْد يفرحون بمخاطبة أنفسهم في مقالات لا يقرأها سواهم، يتهمون فيها 25 يناير بأنه عملية استخبارية. وفي هذا الوصف الساذج للثورة دليل كاف على أنها صارت بمنزلة “الحقيقة” الصامدة في مواجهة التشكيك. توالي السهام على ثورة 25 يناير 2011 يزيدها صلابة، ويجتذب إليها أنصارا جددا عقلاء يدركون أن الحدث لو كان عابرا ما تحدى، وهو وحيد أعزل، تسعة أعوام من السباب والاتهامات. ولأنه من حقيقة الوجود فهو يحتفظ ببهائه، وتتجدد ذكراه تلقائيا، ولا يصيب المؤمنين به يأس.
من يتهم 25 يناير بأنه عملية استخبارية يشير بأصابع الإدانة إلى جيش ساند الثورة، وأدى ممثّله التحية إلى شهدائها عقب خلع حسني مبارك. وفي هذا الاتهام اعتراض صريح على دستور 2014 الذي يضع 25 يناير 2011 حيث انتهى حكم مبارك، بجوار 30 يونيو 2013 حيث انتهى حكم الإخوان. هذا الدستور يمدّ جسرا بين العاصفتين، ويعتبرهما ثورة واحدة “فريدة بين الثورات في تاريخ الإنسانية، بكثافة المشاركة الشعبية التي قدرت بالعشرات من الملايين، وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق، وبتجاوز الجماهير للطبقات والأيديولوجيات نحو آفاق وطنية وإنسانية أكثر رحابة”.الجمعة الماضي، 17 يناير 2020، غاب السلوك الرشيد وحضرت حكمة هولاكو. وليس أقدر من الشعراء على رؤية الدراما في موقف تاريخي لهولاكو، وكان حظ القاهرة 100 شاعر من 15 دولة، يقضون يومهم الأخير في مصر بعد ختام ملتقى القاهرة الخامس للشعر العربي، فأتاح لهم الارتباك والتعامل الخشن رؤية يوم مصري لن يغادر ذاكرتهم، وألزمهم بالبقاء في الفندق، بعد إغلاق مقاه وسط القاهرة، تحسبا لمظاهرة في أوهام جهاز الشرطة، ولا ينوي أحد الانخراط فيها.
اعتاد المثقفون الضيوف أن يكون اليوم الأخير قبل المغادرة فرصة لجولات حرة، تمرّ عادة بميدان التحرير، ثم تملأ القاهرة صخبا ونقاشا. وتزدان منطقة وسط البلد بالمقاهي الممتدة من الداخل إلى الأرصفة، ولكنّ شيطانا كارها للحياة نزع هذه الروح منذ نهاية 2013، وقرر إغلاق المقاهي والإبقاء المشروط على البعض منها، فاكتسى وجه المنطقة عبوسا وجهامة.
ولم يكن الشعراء في يومهم الأخير بمصر يريدون أكثر من ذكرى لا تمنحها الفنادق وقاعات المؤسسات الثقافية، ذكرى لها ملامح البشر في الشوارع، وبصمات المطر على الأرصفة، ذكرى “إنسانية” أخيرة في مدينة أتصور أن لها في قلوبهم مكانا، ولا أحبّ أن يخرجوا منها بالبحث عن أزمنة شبيهة تصلح للتأسّي، وسوف تغنيهم بلاغة ابن بطوطة القائل في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، حين مرّ بمصر “يستبد العسكر، والشعب يئنّ تحت وطأة الحكم، ولا يهتم الأقوياء بذلك، والعجلة تدور”.
ارتبكت مواعيد لقاءات الشعراء بأصدقائهم، الجمعة، وكان مقررا أن تكون في فضاء مقاه وسط البلد. وبالقرب من ميدان التحرير، في خلاء موحش أريدَ للميدان ولكل ما له ذكرى بالثورة، جرى القبض على ثلاثة صحافيين (خالد حماد وبشري محمد وأحمد عايد)، بعد مقابلة مع الشاعر البحريني قاسم حداد الفائز بجائزة الملتقى ولقاء ضيوف آخرين اضطروا للبقاء في الفندق.
يتذكّر البرلمان تمديد حالة الطوارئ دون فجوات من الحرية، فلا تسأل عن احترام خصوصية مواطن يتعرض لتفتيش هاتفه، للعثور على مقطع فيديو أو نكتة بعثها صديق، أو ألقى بها عابث مجهول في سلة الرسائل، وقد تقذفه إلى حبس احتياطي مفتوح المدى. ولحسن حظ المقبوض عليهم أنهم صحافيون، واحتاج الإفراج عنهم إلى تدخل نقيب الصحافيين ضياء رشوان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات. فماذا يفعل معتقل مسكين لا تحميه نقابة، ولا يعرفه رئيس الهيئة العامة للاستعلامات؟
الصيغة الشبحية التي ترادُ للمدينة لها تكلفة بشرية ومادية باهظة، من إجهاد جهاز الشرطة واستهلاك سياراتها ومصفحاتها ووقودها ودراجاتها النارية وأجهزة اللاسلكي والحبال الصوتية والأذن الوسطى والجهاز العصبي. وهناك تكلفة نفسية أيضا، فلن تصمد هذه الإجراءات طويلا أمام جيل تفتح وعيه على الحلم بشعار ثورة 25 يناير “تغيير- حرية- عدالة اجتماعية”. من كان صبيا في الثانية عشرة سيتخرج في الجامعة هذا العام، ولا يحلم هذا الجيل اليائس إلا بالهجرة، وإذا استحالت سيكون البديل انفجارا يصعب توقع اتجاهه.
إغلاق المجال العام دعوة إلى الإسراع للبحث عن خلاص قبل نضوج الوسائل، وفرصة لتذكّر هولاكو والتوقف أمام نصيحة يُسديها قاتل إلى قتيل. وكان الخليفة المستعصم قد أرشد الغازي إلى خزائن القصر، ومنها حوض مملوء بالذهب. وأمر هولاكو بحرمان الخليفة من الطعام، وحين جاع قُدّم إليه طبق مملوء بالذهب، فقال “كيف يمكن أن آكل الذهب؟”، فأجابه هولاكو “ما دمت تعرف أن الذهب لا يؤكل، فلم احتفظت به، ولم توزعه على جنودك، حتى يصونوا ملكك الموروث من هجمات هذا الجيش المُغير؟ ولماذا لم تحوّل تلك الأبواب الحديدية إلى سهام، وتسرع إلى شاطئ نهر جيحون لتحولَ دون عبوري؟”. قال الخليفة “هكذا كان تقدير الله”، فقال هولاكو “وما سوف يجري عليك إنما هو كذلك تقدير الله”، وقتله. أعتذر عن وصف مجرم بأنه حكيم، وبهذه الحكمة الساخرة أختتم المقال.