محمد أبوالفضل يكتب:
طموح مصري لدور إقليمي أكثر فاعلية
يبدو أن النظام المصري كان في حاجة لصدمة إقليمية قوية من نوعية النهم التركي للتدخل عسكريا في ليبيا، للتفكير جديا في التخلّي عن حذره الكبير في التعامل مع كثير من التطورات الجارية في المنطقة. يتعزز هذا الاتجاه مع انخراط قطاع كبير من المواطنين في متابعة القضايا التي تهم الأمن القومي المصري. بداية من أزمة سد النهضة الإثيوبي، ونهاية بالأزمة الليبية وشواغلها الأمنية.
اصطحب ما يوصف بـ”الانكفاء” الرسمي تداعياته على نظيره الشعبي. ولم يعبأ المصريون كثيرا بما يجري حولهم. وهو الشعور الذي انتاب شريحة كبيرة، وبدأ يتغير عندما بدأت الحكومة نفسها تغير من حساباتها، وتشعر أن الهموم الخارجية القريبة لن تخلو من هموم تلقي بظلالها القاتمة على الأوضاع الداخلية. وسارعت وسائل الإعلام المختلفة، على غير عادتها، بمتابعة بعض الأحداث الإقليمية ذات العلاقة الوثيقة بمصر.
تبدو هذه المسألة علامة قوية على الخروج عن طور التريث المبالغ فيه من قبل الحكومة، لأن الملفات الخارجية لم تحتلّ أولوية أو حتى اهتماما في أجهزة الإعلام خلال السنوات التي تبنّت فيها القاهرة خيار التراجع. ربما تكون هناك مبرّرات دفعت إلى هذا الطريق، غير أنها تظل ضد ناموس الحياة المصري الذي يفرض الدفاع عن الأمن القومي قبل وصوله للحدود الجغرافية.
أدّت أزمة ليبيا إلى تجدد الحديث وسط النخبة المصرية خلال الأيام الماضية حول جدليتيْ الانكماش والتمدّد. ودارت حوارات جانبية بين تيارين. أحدهما يؤيّد التقوقع. والآخر يقف في صفّ المبادرة والخروج. يملك كل تيار مروحة واسعة من التفسيرات التي تدعم موقفه، وعناصر تقدّم تبريرات منطقية لما ذهب إليه.
أعادتني الفكرة – الجدل إلى حوار طويل دار بيني وبين الأمين العام لجامعة الدول العربية، السفير أحمد أبوالغيط، منذ حوالي عامين، بشأن الدور الإقليمي. وكان الرجل من مؤيدي التركيز على الهموم الداخلية ولفظ التطلعات الرامية لتفعيل حركة القاهرة في المنطقة. ولم يُبد اقتناعا بمفردات قاموس الدور لضرورات الأمن وخلافه. وتمسك بكل معاني “الانكفاء” التي تحمل الكثير من المضامين السياسية، ورآها طريقا آمنا مع التوترات والعواصف.
احترمت كلامه وقدّرت دوافعه المتنوعة. فهو من الجيل الذي عاش حقبا زمنية متباينة، وتقلد مناصب وظيفية رسمية أثناء فترة الانكماش الحقيقي خلال فترتيْ الرئيسيْن، أنور السادات، وحسني مبارك. وتولّدت لديه أفكار تشير بأن الخروج لممارسة دور إقليمي وسط أمواج متصادمة تحمل في جوهرها مخاطر جسيمة، وتأتي دوما على حساب المشروعات التنموية.
اختلفت مع تقدير أبوالغيط، وحافظت على علاقتي به. نلتقي ونتحاور من وقت لآخر بشأن بعض القضايا العربية. وفي القلب منها الأزمة الليبية وانعكاساتها الإقليمية. لم تفلح مناقشاته في تغيير وجهة نظري حول أهمية أن تملك مصر مبادرات حيوية للتعامل مع الملفات المتناثرة، تخرجها من نطاق الحذر الكبير إلى الانفتاح المحسوب. فالأزمة الليبية مثلا أصبحت في صميم الاهتمامات الشعبية، وهذا كان يكفي لتطوير فكرة الدور الإقليمي.
تعاني السياسة الخارجية المصرية من تريّث فائض عن الحد، قد تكون أسبابه مفهومة في ظل المشكلات التي عانت منها الدولة في السنوات الماضية. لكنها لم تعُد كذلك بعد تمكّنها من تجاوز جُملة من العقبات. كما أن مواصلة هذا التوجّه يغري بعض الدول التي تمتلك طموحات وأحلاما معيّنة على استغلال الفراغ، والسعي إلى سدّه بكل الوسائل المتاحة.
من بين العوامل التي دفعت تركيا للتدخل في ليبيا، ومد بصرها نحو دول أخرى في المنطقة، يقينها أن مصر مشغولة بمشاكلها الداخلية، وليس لديها رؤية للدور والمشاكسة الخارجية. وكل ما يهمّها عدم التعرض لمضايقات مباشرة تزعزع أمنها. غير أن هذه التصوّرات لم تبعد عنها شبح المخاطر، لأن التردّد طال الكثير من هياكل الدولة وجعلها عاجزة عن الفعل.
أثبتت الدبلوماسية المصرية في محطات عربية عديدة، أنها تعمل لأجل الوقاية من الضربات المتوقعة، وردع القوى التي تقترب من الحدود الإقليمية عبر امتلاك أنواع متقدمة من المعدات والأسلحة العسكرية وتنويع مصادرها، دون إصرار على عقد تحالفات متينة وواضحة. ولم يبرهن تطور العلاقات مع دول في الشرق والغرب، على أنه بداية، أو نواة، لتوجه ينم عن رغبة في القيام بدور مؤثر على المستوى الإقليمي.
وتم وضع تكتيكات متعددة للتعامل مع أزمات مختلفة ومتطورة، وتم تجاهل وضع صيغة محددة لما تتطلبه الرؤية الإستراتيجية العامة. وقادت هذه المسألة على عدم امتلاك زمام المبادرة والاكتفاء بالوقاية الداخلية. ويمكن القول إن القاهرة حاضرة في كثير من القضايا الساخنة في المنطقة، وتُستدعى في عدد منها للقيام بمهام ظاهرة، ولا تستطيع توجيه الدفة أو التأثير في اللاعبين الآخرين بما يخدم مصالحها العميقة.
يفضي استمرار هذه السياسة، على المدى المتوسط، إلى مواجهة تهديدات كبيرة لأمنها القومي، لأن فقدان القاهرة دورها التاريخي في محيطها الإقليمي يغري قوى أخرى على تكرار ما عزمت تركيا على القيام به في ليبيا. فعندما يُرسخ في الأذهان عدم رغبة مصر دفع أي ثمن لتمددها، أو أنها مصرّة على الانكفاء، لن تتردد بعض القوى في ممارسة هواية العدوان.
ظهرت تجليّات التردد في القضية الفلسطينية، حيث تدور أجزاء كبيرة من تطوراتها حاليا بعيدا عن القاهرة، وهي التي لم تفارقها حربا أو سلما على مدار عقود ماضية. وتم الاستغراق في متابعة التفاصيل الدقيقة للمناورات الداخلية من قبل حركتيْ فتح وحماس ورعاية مصالحات متعثرة لإنهاء الانقسام، بينما يتم رسم الإستراتيجيات على أصعدة متباينة، تبدو المشاركة المصرية فيها غامضة.
تتوق شريحة كبيرة من المواطنين إلى التخلّي عن سياسة الحذر، والتفاعل مع المعطيات المتلاحقة، ولدى هؤلاء شعور جارف بالأهمية التي يحملها محدد الفعل الإيجابي الإقليمي، بل يرون أن تبنّي خطوات تصبّ في بوتقة التمدد تتجاوز الإطار الجدلي الخاص بإشكاليتيْ، منْ مع منْ، ومنْ ضدّ منْ، لأنّ الأمن والاستقرار المصري تاريخيا يبدأ من خارج الحدود، وليس العكس.
إذا كان النظام المصري يخشى مغبّة المغامرات وتسيطر عليه لعنة المؤامرات، فعليه ممارسة التمدد الإقليمي ضمن قواعد يتمّ صياغتها بحكمة تراعي القانون الدولي، وتوازنات القوى الكبرى المتحركة. ورغم تراجع أو تلاشي فكرة المحاور، هناك مصالح تقتضي التفاهم وعقد تحالفات مع دول مؤثرة، قد تسهّل عملية الخروج المصري من غير أن يكون مطلوبا توريطه في مستنقع ما.
تفتقر الحكومة المصرية للرفاهية الاقتصادية والاجتماعية، مع أنها حققت قدرا كبيرا من الاستقرار الأمني. ومرجّح أن تجد نفسها في أيّ لحظة مطالبة بالوفاء بوعد الإصلاحات السياسية، وتوسيع نطاق الحريات وحقوق الإنسان وفقا للمعايير الدولية. وكلها استحقاقات مؤجلة، وتأقلمت فئة كبيرة من المواطنين مع الترحيل المستمر، لأن الحكومة تخوض معركة ضارية ضد الإرهاب.
بعد قصم ظهر المتشددين في سيناء وغيرها، وتجاوز خطاب الحرب على الإرهاب، من الضروري أن تضع الحكومة رؤية شاملة للقيام بدور فاعل على المستوى الإقليمي يساعد على تحقيق التوقعات الإستراتيجية من الدولة، ويجمع شمل المصريين على هدف ثمين، ويوقف نزيف الأطماع التي تراود تركيا، أو غيرها، في توظيف استمرار تهميش القاهرة في المنطقة.