محمد أبوالفضل يكتب:

تدفق الإرهابيين يحرّك المياه في الجوار الليبي

لم تعُد بعثة الأمم المتحدة للدعم وبعض القوى الإقليمية والدولية منخرطة في الأزمة الليبية لوحدها، فقد بدأت الآلية الأفريقية تنشط، وأخذت دول الجوار تضاعف تحركاتها وتستعيد كل من الجزائر والمغرب وتونس عافيتها في المبادرة، بعد قيام تركيا بإرسال أعداد غفيرة من المرتزقة والإرهابيين بصورة أحدثت خللا في موازين القوى المعتادة في المنطقة.

استفزت الخطوة الدول الثلاث، بعد أن أثبتت تقارير دولية صحتها، وأكدت أن ليبيا تحولت فعلا إلى ساحة علنية للحرب بالوكالة وتصفية الفواتير السياسية، وأن تركيا عازمة على نقل المزيد من المقاتلين الأجانب من سوريا، جوا وبحرا وبرا، ولن تتوقف عن إرسال الأسلحة والمعدّات لحكومة الوفاق الوطني. وأكدت أنها تواصل الالتفاف على قرار حظر تصدير الأسلحة، ولن تولي اهتماما بمخرجات مؤتمر برلين أو تكترث بالانتقادات التي فضحتها، ولن تكفّ عن التصرفات التي تزيد الأزمة اشتعالا.

تشير بعض المعطيات إلى أن هناك تغيّرا واضحا في مواقف دول الجوار الليبي في الشمال الأفريقي، التي لم تعُد بعيدة عن النيران المشتعلة في ليبيا. فإذا كانت مصر أعلنت انحيازها مبكرا لقائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر في حربه ضد الإرهاب وتنظيماته المختلفة ووكلائه في الداخل والخارج، فإن الجزائر والمغرب وتونس أهملت هذا الخطاب ولم تعطه العناية اللازمة.

ظلت هذه الدول على مواقفها القريبة من دعم حكومة الوفاق الوطني ورئيسها فايز السراج، إلى أن أدى ارتماؤه في أحضان تركيا وتوصله لتفاهمات أمنية وبحرية واقتصادية معها إلى إعادة النظر في التصورات التي يتبنّاها السراج.

تسبب تدخّل أنقرة السافر في تسريع عملية التواصل المغاربي مع المشير حفتر، بكل ما يمثّله من رمزية عسكرية مؤسساتية، وقدرة على التصدي للإرهاب وضرب عناصره، وبدأت قنوات الحوار تنفتح معه في العلن من الجزائر والمغرب، وربما تونس لاحقا.

انتقلت الأزمة من مربع السجالات حول الموقف من مع أو ضد تيار الإسلام السياسي في ليبيا، إلى ساحة أخرى لسان حالها يقول مع تدفق الإرهابيين أم ضده، وهي واحدة من التطورات التي يمكن أن تغير التوازنات الإقليمية المعروفة في التعامل مع الأزمة.

نجت دول المغرب العربي من الفخاخ التي نصبتها أنقرة لها بشأن اتخاذ أراضيها معبرا لنقل المزيد من المقاتلين المتشددين، وتحويلها إلى ساحة خلفية للقيادة العسكرية التركية، التي تتولّى إدارة الحرب في طرابلس بعد إرسال فرق جديدة من الخبراء والمستشارين.

انكشف الغطاء عمّا تريده أنقرة من الحميمية المبالغ فيها عندما حلّ الرئيس رجب طيب أردوغان ضيفا على كل من تونس والجزائر مؤخرا، وغيّرت نتائج الزيارة أدوار الجوار، وجعلت الدول التي ليس لديها ممانعات قوية في التعاطي مع الجماعات المؤدلجة تعيد النظر في رؤيتها السابقة.

انتبه هؤلاء إلى أن الأوضاع أصبحت خطيرة ويمكن أن تنعكس على سكان الحدود الملاصقة للأراضي الليبية، في وقت تصاعدت فيه حدّة المخاوف من نموّ تيار المتطرفين ليكون عنصر ضغط على الحكومات، ويلتقي عند نقطة معيّنة مع الأحداث المتلاحقة في ليبيا فتزداد الأجواء الإقليمية توترا وبشكل يجعلها تتأثر سلبا أو إيجابا بما يدور في ليبيا.

تقترب ملامح التغيّر في تقديرات دول الجوار من المكوّنات الداخلية في الأزمة مع الحسابات المصرية حيال تغلبب نظرة إقصاء المتطرفين والميليشيات وعدم الوثوق في الرموز، التي تتصدّر المشهد في طرابلس، بصرف النظر عن ألوانهم ومشاربهم وانتماءاتهم وروافدهم. الأزمة الليبية في مفترق طرق السيطرة على الحكم في طرابلس أو نشر الفوضى. وفِي كل الأحوال لن تكون دول الجوار في أمان تام. فهناك حدود مشتركة شاسعة مع ليبيا، وخميرة طازجة للإسلاميين تتطلع إلى انتصار يوفر لهم قدرة أكبر للحركة والتغلغل، بينما يكبح الانكسار حصولهم على مكاسب جديدة.

متوقّع أن ينعكس التدخل التركي في ليبيا سلبا على علاقات دول المغرب العربي مع حكومة السراج، وربما يدفعها للإمساك بزمام الأمور، لأن أحداث العامين الماضيين باعدت المسافات بينها وبين أزمة محتدمة كادت توجد واقعا تتسرب معالمه من بين أيديهم بسهولة.

وكان ذلك يبعد قواعد الحل عنهم، ويرهن مقادير ليبيا بإرادة قوى قد تسخرها لتحقيق مصالحها البعيدة، ويؤدي إلى تداعيات على دول المغرب العربي، بعد أن حافظت على تماسكها السياسي وسط تباين تقديراتها لبعض القضايا المتفجرة في المنطقة.

يساعد التفاهم بين الدول الثلاث ومصر في تفكيك بعض الألغاز، التي بقيت عصيّة على الفهم، وتتعلّق بالصمت الطويل على الدور المحوري الذي يلعبه الإرهابيون والمرتزقة والعصابات المسلحة. وتفرض الخطوات الجماعية تبني خطوات لسدّ المنافذ أمام هؤلاء.

قذفت قمّة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا الكرة في الملعب الأفريقي، بشقيه العام والخاص، بمعنى دعم الدور الذي تلعبه آلية حلّ الأزمة بقيادة الكونغو، وتشجيع دول الجوار على حصار المتطرفين، وعدم التهاون في عملية غلق الأبواب التي يدخلون منها.

يمكن لدول الجوار أن تصبح رمانة ميزان في الأزمة، لأن تكاتفها لتضييق الخناق على تركيا وأذرعها الأمنية، يمثل خطوة كبيرة لتنفيذ الإرادة الدولية بشأن حظر تصدير الأسلحة وتقويض دور الميليشيات وتطوير وقف إطلاق النار، وتحويله من هدنة هشة إلى مستقرة، وتوفير طاقة أمل للحوار السياسي بين القوى الداخلية.

يعدّ استئناف تفاعل دول الجوار علامة صحية، في ظل إصرار بعض الجهات على رهن تسويتها بإرادتها. فتركيا مصمّمة على التحكم في مساراتها وتوجيهها نحو أغراض تريد الوصول إليها دون أن تعبأ بما تنتجه ممارساتها من تأثيرات على دول الجوار الليبي.

لجأت أنقرة إلى ليّ أعناق بعض المواقف، الأمر الذي أدخلها في أزمة مكتومة مع دولة مثل الجزائر، من مظاهرها تراجع الودّ المعهود مع تركيا، والتنصل جزئيا من النظرة الوردية لحكومة الوفاق، التي تحوّلت إلى رأس حربة لشرعنة الوجود العسكري والسياسي التركي، وما يجلبه من تغذية للمتشددين في المنطقة.

بدأت دول الجوار في شمال أفريقيا تتخلّى عن صمتها، وتبتعد عن ربط تطوير دورها بأزماتها الداخلية. وسيؤدي تفاعلها إلى تغيير حقيقي في الأوضاع التي حاولت بعض القوى فرضها على الساحة الليبية. فالخطر الذي يمكن أن يداهم هذه الدول، إذا نجحت أنقرة في تثبيت أقدامها، يتخطّى تمكينها من هذه الدولة وتوسيع نطاق الدور الذي تقوم به الميليشيات، ويصل إلى مستوى التهديد الاستراتيجي المباشر.

تكمن الهواجس المركزية في تحوّل ليبيا إلى بؤرة جذب للمتطرفين الجهاديين وانتقالهم من دولة لأخرى في المنطقة. وبالتالي منح قوى كبرى مشروعية التدخل عبر مقاربات تضر بما تمّ الاستقرار عليه من تفاهمات مشتركة، وتوفير ذريعة للاستثمار في بعض القضايا الشائكة.

يقود الاستنفار الحالي إلى تقديم مبادرات تتكامل مع نتائج مؤتمر برلين ولا تتنافر معه، طالما أن الهدف الرئيس وقف التدخلات الخارجية بكل صورها، وكسر الحواجز التي أعاقت مطاردة المتشددين. فالمنطقة لا تحتمل سيناريو شبيها بما جرى في سوريا، لأن البيئة الأمنية في شمال أفريقيا لن تسمح بتخريب الصيغة التي مكّنتها من الحفاظ على الهدوء سنوات طويلة. فتصاعد الانفلات في ليبيا يضع دول الجوار في مرمى نيران الإرهابيين.