د. ابراهيم ابراش يكتب:
التمسك بالشرعية الدولية لا يكفي لوحده للرد على صفقة القرن
تبايُن المواقف من خطاب الرئيس أبو مازن في مجلس الأمن يُعطي مؤشراً خطيراً ليس فقط على استمرار عقلية وواقع الانقسام الفلسطيني بل أيضاً استمرار حالة التيه السياسي وغياب أية رؤية أو استراتيجية للرد العقلاني والواقعي على خطة ترامب، وهو رد كان من المُفترض أن يتبلور منذ أن أعلن ترامب عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة للقدس وعندما أوقفت واشنطن المال عن السلطة وجَهرت بموقفها الرافض لحق عودة اللاجئين وعندما أغلقت مقر منظمة التحرير في واشنطن، بل حتى قبل مجيء ترامب عندما توقفت المفاوضات الرسمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
خطاب الرئيس أبو مازن في مجلس الأمن لم يختلف عن خطاباته في المحافل العربية والإسلامية والإفريقية بل كانت حدة نبرة الخطاب في مجلس الأمن أخف. ما تمناه البعض من أن يكون الخطاب أكثر وضوحاً وحدة في مواجهة واشنطن وتل أبيب وأكثر وضوحاً في التأكيد على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بما في ذلك حقه بمقاومة الاحتلال وشرعية هذه المقاومة مع التركيز على التمييز بين عنف دولة الاحتلال وعنف الشعب الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه، إلا أنه في اعتقادي ما كان للرئيس إلا أن يتكلم بهذه اللغة في مخاطبته لأعضاء مجلس الأمن والعالم لعدة أسباب منها:
- إن الرئيس استمر أميناً مع نهجه ومنطقه السياسي الذي يراهن كلياً على التسوية السياسية والمفاوضات والشرعية الدولية ولا يؤمن بجدوى المقاومة المسلحة.
- إن الخطاب جاء مباشرة بعد فشل التوصل لصيغة مشروع قرار في مجلس الأمن يُدين الصفقة وهو فشل يُعد مؤشراً سلبياً يجب التوقف عنده مطولاً.
- جاء الخطاب بعد مماطلة محكمة الجنايات بفتح تحقيق في جرائم إسرائيل.
- جاء الخطاب بعد تلمس الرئيس لضعف ردود الفعل العربية والإقليمية والدولية التي لم تتجاوز الرفض اللفظي لصفقة ترامب.
- جاء الخطاب في ظل استمرار ضعف الحالة الفلسطينية واستمرار الانقسام وعدم خروج المعارضين لصفقة القرن عن مربع الخِطابة دون أي توجه فعلي لبديل مقاوم وعملي للصفقة.
بعد أيام ستنتهي هوجة أو موسم التنديد والرفض للصفقة، وهي معارضة وإن كانت مطلوبة للتعبير عن الرفض الشعبي لأية تسوية تتجاهل الحد الأدنى للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني كما تم بلورتها في المجلس الوطني في الجزائر 1988، إلا أنها لن ترتدع إسرائيل وأميركا وتدفعهما للتراجع عن الصفقة، وإن كان من الممكن أن تدفعهما كنوع من المناورة للحديث عن تعديل الصفقة والبحث عن وسطاء لجلب طرف فلسطيني لطاولة المفاوضات.
لا نتفق مع الذين يبالغون ويُهوِّلون من حالة الرفض لصفقة ترامب –نتنياهو لدرجة أن البعض يعتبرها ولِدت ميتة، بل نؤكد على خطورة هذه الصفقة وضرورة الاستعداد لمواجهتها، وذلك لعدة أسباب:
- الصفقة تعبر عن واقع السياسة الدولية الواقعية التي تقوم على المصالح وبالتالي لا تُعير اهتماماً لخطابات الرفض والتنديد ولا لقرارات الشرعية الدولية، وواشنطن تعرف جيداً مواقف الدول العربية والإسلامية وتعرف جيداً حدود قرارات الشرعية الدولية كما تعرف الواقع الفلسطيني المنقسم على ذاته.
- تعبر عن موقف الإدارة الأميركية وليس مجرد رأي شخصي لترامب، وخصوصاً إذا ما تم انتخاب ترامب مرة ثانية، والتحليل الذي يقول إن الصفقة رأي شخصي لترامب فهو في هذه الحالة يتعامل مع أميركا وكأنها دولة عربية الكلمة والقرار فيها للزعيم وليس عن دولة مؤسسات، فترامب صناعة الدولة العميقة ويعبر عنها وعن شبكة المصالح القومية الكبرى الاقتصادية والعسكرية والأمنية والسياسية.
- هناك تحوُّل في حديث الرئيس أبو مازن تجاه الرئيس ترامب من السلبية المطلقة ونعته بأسوأ الصفات إلى الحديث الإيجابي في خطابه في مجلس الأمن وهو ما يؤشر عن استعداد للحوار مجدداً مع ترامب.
- استمرار التوجه الإيجابي للرئيس أبو مازن تجاه الجمهور الإسرائيلي وحديثه عن إسرائيليين رافضين للصفقة من سياسيين وعسكريين، واستعانته غير الموفَقة برئيس وزراء إسرائيل السابق إيهود أولمرت، وهذه المقاربة للمجتمع الصهيوني تتعارض مع حقيقة أن كل المجتمع الإسرائيلي ينحو نحو اليمن ويرفض قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 أو التخلي عن القدس.
- استمرار تمسك الرئيس أبو مازن بالسلام والتسوية السياسية لدرجة مدحه لاتفاقية أوسلو، مع أن جزءاً كبيراً مما يجري للشعب الفلسطيني يعتبر من مخرجات تسوية أوسلو.والإشارة الايجابية من الرئيس لاتفاقية أوسلو قد يفسر عدم تطبيق قرارات فلسطينية سابقة بإنهاء العمل بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل أو حل السلطة أو وقف التنسيق الأمني.
- الضغوط الهائلة التي تعرض لها الرئيس ليس فقط من واشنطن أو من إسرائيل لدرجة تهديده بالتصفية، بل من أطراف عربية أيضا.
لا نقلل من أهمية موقف الرئيس الرافض حتى الآن للصفقة وهو الزعيم الفلسطيني والعربي الوحيد الذي يتحرك عبر العالم بالرغم من مرضه وكِبر سنه مدافعا عن حقوق الشعب الفلسطيني، فيما الزعماء الآخرون يكتفون بالرفض العلني وبعضهم ينتظر نصيبه من الصفقة، كما نؤكد على أهمية الحراك الدولي في الأمم المتحدة وخارجها والتمسك بقرارات الشرعية الدولية، إلا أن الرئيس وإن حاول أن يكون واقعياً وعقلانياً وإن نجح نسبياً في كشف حقيقة صفقة ترامب –نتنياهو والتحريض عليها حتى لا تكتسب شرعية رسمية ومُعلنة، إلا أنها تبقى عقلانية وواقعية منقوصة إن اقتصرت على الرفض والتمسك بقرارات الشرعية الدولية التي لا يُعتد بها في زمن الواقعية السياسية، كما أنها تفتقر إلى أهم مكونات الواقعية السياسية وهي القوة وحسابات المصالح.
حتى تؤتي عقلانية وواقعية الرئيس أبو مازن أوكُلها يجب دعمها بمصادر قوة توجد عند الشعب الفلسطيني ويمكن تفعيلها بالوحدة الوطنية وتثبيت وجود الشعب على أرضه كوجود مقاوِم وليس مجرد كم عددي، وهذا أمر ممكن وخصوصاً أن الصفقة المشبوهة لا تستثني أحداً في غزة والضفة والقدس وفلسطينيي 48 وفي الشتات، وخطوة إلغاء الاتفاقات الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير إن كانت جادة ومشفوعة بآليات تنفيذ على الأرض وبوحدة وطنية تنهي الانقسام ستكون خطوة في الاتجاه الصحيح، والشعب الفلسطيني عظيم ولديه عناصر قوة يجب استنهاضها بطريقة عقلانية.
ونقولها بصراحة للذين يعارضون نهج الرئيس، إن مسؤولية مواجهة الصفقة ليست مسؤولية الرئيس والسلطة الفلسطينية فقط بل مسؤولية الجميع ولا داع للشماتة بالرئيس والسلطة بالزعم بأن الصفقة صفعة للرئيس ومنظمة التحرير ولكل من راهن على التسوية السياسية والشرعية الدولية، ونقول للشامتين، منذ سنوات ونحن نسمع خطاب الرفض للسلام وللتسوية السياسية والزعم بأن المقاومة المسلحة هي الرد والبديل لنهج التسوية ولنهج أوسلو، وها هي التسوية فشلت وما هو مطروح أكثر خطورة من تسوية أوسلو، فأين المقاومة المسلحة والعمليات الجهادية؟ وهل يُعقل أنه في الوقت الذي تواجه القضية خطر التصفية من خلال صفقة ترامب –نتنياهو تتمسكون بالهدنة مع إسرائيل وبالانقسام؟
ليست هذه دعوة للعودة للمقاومة الفصائلية الموسمية بالشكل الذي كانت عليه بل دعوة لتوحيد الموقف الفلسطيني بالوحدة الوطنية واشتقاق استراتيجية مقاومة شعبية تُشعر الاحتلال بأن مخططاته لتنفيذ الصفقة وضم المستوطنات لن تمر بدون ثمن، ولا نقصد بالثمن مزيد من القرارات الدولية بل بما سيدفعه المستوطنون من دمائهم وراحتهم ومصالحهم، وتدفعه دولة الاحتلال بإبقائها في حالة توتر وتحت الضغط وعدم الاحساس بالأمان.