محمد أبوالفضل يكتب:

السودان من خصم للمجتمع الدولي إلى نموذج واعد للديمقراطية

تسارعت وتيرة التفاعل بين السودان والمجتمع الدولي بصورة كبيرة، ودارت عجلة التجاوب والتفاهم بينه وبين العديد من القوى إلى درجة خرقت بعض المحرمات السياسية، وأوحت أن السلطة الانتقالية التي ظلت مترددة أكثر من اللازم طوال الستة أشهر الماضية أصبحت أشد جرأة، وقادرة على تبني رؤى عكس اتجاه الرياح، والانخراط في تعاون مع جهات عدة، طالما أنها تصب في مصالح السودان وتساعده على شق طريقه نحو الحداثة والحكم الديمقراطي.

بدأت دوائر غربية تخرج أخيرا عن صيغة الحذر والتوجس والترقب التي تعاملت بها مع السلطة الجديدة في السودان، بشقيها مجلس السيادة والحكومة، وانتقلت من الانتظار والتريث إلى المبادرة والاقتحام، وشجعت الخرطوم على اتخاذ إجراءات كبيرة لاستيعابها ضمن الأدوات المؤثرة في النظام الإقليمي الذي تسعى بعض القوى الكبرى لتأسيسه، والتي أخذت تسبغ رضاها على السودان مع كل تطور نوعي يقوم به.

ظهرت المؤشرات الواضحة للتحركات السودانية في لقاء الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة مع بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل في عنتيبي بأوغندا، وقبول الحكومة بدفع تعويضات لأسر ضحايا المدمرة الأميركية “كول”، والموافقة المبدئية على تسليم المتهمين بارتكاب جرائم حرب في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، فضلا عن طلب الدعم السياسي الواسع من الأمم المتحدة.

تصبّ الرسائل الظاهرة التي ينطوي عليها هذا التوجه في صالح الحصول على موافقة صريحة من الولايات المتحدة لتسوية ملف رفع اسم السودان من على اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وما تحمله من فوائد سياسية واقتصادية للخرطوم في مجال التعاون والتنسيق بين واشنطن والخرطوم، وترطيب الأجواء بين الأخيرة والمجتمع الدولي الذي تساوره تقديرات واعية بإمكانية أن يتحول السودان إلى نموذج عربي وأفريقي للحكم الرشيد.

يحتاج السودان إلى مساعدات خارجية قوية لتجاوز حلقة العقوبات المريرة، وهي إحدى حلقات الماضي البغيض. فهناك عقوبات مفروضة من قبل مجلس الأمن بموجب القرار 1591 الصادر في 2005 الذي أنشأ لجنة خاصة لرصد تنفيذ الجزاءات ذات الصلة. وهناك مجموعتان من العقوبات المفروضة على الخرطوم، الحظر المفروض على الأسلحة وحظر السفر، وتجميد الأصول للأشخاص المتورطين في حرب دارفور. ولن يتم تخطي ذلك دون أن يحصل السودان على ثقة كاملة فيه من قبل المجتمع الدولي.

تردد وإحجام

ارتاحت بعض الدول الغربية للطريقة التي أُسقط بها نظام الرئيس عمر حسن البشير، والتي تعززت مع تشكيل هياكل الحكم خلال المرحلة الانتقالية. لكن انتاب هذه الدول شعور بالقلق من كثافة التحديات، وخوف من العودة إلى الماضي عبر سيطرة المؤسسة العسكرية على مفاصل الحكم، أو عودة الحركة الإسلامية وروافدها الحزبية للنشاط وتهديد السلطة الانتقالية، خاصة أن حكومة عبدالله حمدوك بدت بطيئة في اقتحام المشكلات وإيجاد حلول جذرية لها.

يتفهم المتابعون للشأن السوداني دواعي هذا البطء، مع كثافة الأدوات السياسية والاقتصادية والأمنية التي يملكها الفلول، ووجود دول، مثل قطر وتركيا، ترعاهم وتريد نثر المطبات في البلاد، ومنع نجاح المرحلة الانتقالية. لذلك لم تنجرف الحكومة أمام مطالب الشارع الرامية للتخلص تماما ودفعة واحدة من عناصر النظام السابق، خوفا من الدخول في صدامات مسلحة ممتدة، في وقت تحاول الحكومة تقوية الهياكل المدنية في الدولة.

دخلت السلطة الانتقالية اختبارات مختلفة، نجحت في بعضها، وسقطت في غالبيتها، ربما بحكم تراكم الأزمات والتهديدات، وربما لوجود قيادات تريد أن يبقى السودان تائها لفترة طويلة، ولا يستطيع تحصيل نسبة مرتفعة من الأمن والاستقرار، أو يتمكن من التفاعل مع المجتمع الدولي.

عبدالله حمدوك استبق المأزق المركّب، وأصر على تقديم طلب إلى الأمم المتحدة مؤخرا لإرسال بعثة سياسية دائمة إلى السودان، مهمتها الأساسية ضمان الانتقال إلى الحكم المدني، وعدم الانتظار لحين حدوث مشكلة أو شرخ عميق مع الجناح العسكري

اصطحب هذا التردد، إحجاما ضمنيا عن تقديم مساعدات سخية، وبقيت فقط في إطار محدود أو ما يسمى بـ”حد الكفاف” إلى حين تقدم الخرطوم ما يثبت قدرتها على إدارة المرحلة الانتقالية بنجاح وبالشروط التي تتماشى مع الأهداف التي جعلت دولا كثيرة تساند الثورة، وفي مقدمتها أن يصبح السودان نموذجا للحكم الديمقراطي وسط محيط يموج بالصراعات والأزمات، يعد السودان أهم عناوينها الرئيسية.

كشفت تجارب الدعم لسقوط الأنظمة الدكتاتورية والعسكرية عبر غزوات (العراق) أو ثورات في بعض الدول العربية (تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن)، حجم العجز الدولي في الانتقال الديمقراطي السلس. فكل النماذج التي دخلت في هذه التجارب أخفقت، باستثناء تجربة تونس الحيّة، أخفقت في التحول السياسي الذي يتسق مع قناعات الغرب، وهو ما أشاع أجواء من الإحباط في الآلية الناجعة للتغيير.

قدمت تجربة السودان في الحراك الثوري نمطا جديدا لم يظهر في أيّ من الدول التي شهدت انتفاضات واحتجاجات. لم يحدث انهيار كامل في مؤسسات الدولة. ولم تنشب حرب أهلية. ولم تتمكن المؤسسة العسكرية من القبض على السلطة بطرق تحايلية. وظهر إبداع جديد بتكلفة أقل يتواءم مع مقتضيات الأوضاع في السودان، ويجمع بين الحكم المدني والعسكري لحوالي ثلاث سنوات خلال مرحلة تهيّئ البلاد للانتقال من الحكم المزدوج إلى حكم مدني دائم.

السودان تحت المنظار

وضعت الولايات المتحدة وغيرها من القوى الدولية، السودان تحت منظار دقيق وراقبوا تصرفات السلطة وكيفية إدارتها للحكم ووجدوا الآلية التي تسير بها غير مطمئنة، وقد لا تفضي إلى النتيجة السياسية المطلوبة.

كان هناك خياران للتعامل مع الموقف المتأزم، إما القبول بنموذج مشوّه وتقديم دعم اقتصادي لتخفيف حدة المشكلات، دون انتظار للمربع الذي سوف يستقر داخله، أو ممارسة ضغوط محسوبة وربط المساعدات بمدى قيام السودان بتبني خطوات تثبت أن ثمة تغييرا حقيقيا في التوجهات، واستعدادا للتكيف مع المجتمع الدولي بشروطه الحداثية والسياسية.

بدت سياسة العصا والجزرة مع السودان غير مجدية كثيرا، وأوشكت أن تعيده إلى النفق المظلم في ظل مخاطر عارمة يمثلها بقايا نظام البشير، وضعف في مؤسسات النظام بسبب تدخلات ما يوصف بـ”الدولة العميقة”، وتصاعد في مستوى الأزمات الاجتماعية والنزاعات القبلية في الهامش والأطراف، وتفكك في جسم القوى الداعمة للثورة.

هددت هذه العوامل صمود الحكومة وقدرتها على الاستمرار. ولم يكن هناك بُدّ من القيام بتحركات تستجيب لما هو مطلوب من الخرطوم لرفع اسم السودان من على اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، لأنها تمثل رأس الحربة التي تفتح الأبواب المغلقة على صعيدي رفع ما تبقى من عقوبات دولية، وتلقي مساعدات اقتصادية.

بالفعل سعت الخرطوم لفك ألغاز العراقيل الأميركية، وتوصيل إشارات تؤكد على عمق التغير، والحرص على التعامل مع المجتمع الدولي وفقا لمقتضيات جديدة، تنهي العلاقة مع الماضي وتؤسس لقطيعة مستمرة مع أدبيّاته.

شمل السباق نحو الغرب مكوّني السلطة الانتقالية، مجلس السيادة والحكومة، ولم تخف المؤسسة العسكرية مشاركتها في التوجهات الجديدة قبل أن تجرفها عواصف دعم الحكم المدني، فأيّ تراخ من جانب الجيش لتسليم رئاسة مجلس السيادة بعد حوالي عام من الآن للمكون المدني قد يفضي إلى مشاكل كبيرة، وأيّ محاولة للالتفاف على الوثيقة الدستورية التي حددت بنود المرحلة الانتقالية سوف تكون عواقبها وخيمة.

استبق عبدالله حمدوك المأزق المركّب، وأصر على تقديم طلب إلى الأمم المتحدة مؤخرا لإرسال بعثة سياسية دائمة إلى السودان، مهمتها الأساسية ضمان الانتقال إلى الحكم المدني، وعدم الانتظار لحين حدوث مشكلة أو شرخ عميق مع الجناح العسكري.

توفر هذه الخطوة حماية دولية للحكم المدني، وتقوض محاولات الخروج عن الوثيقة الدستورية، وبالتالي تردع المؤسسة العسكرية وتجعلها لا تخرج عن المهام المنوط القيام بها، وكلها تتعلق بالأمن القومي فقط، وعدم التلكؤ في تصفية الجيوب المدنية التي يشارك فيها الجيش السوداني، وتسريع عملية توحيد الأذرع المسلحة تحت قيادة عسكرية نظامية.

يقود الوصول لهذه النقطة إلى تسهيل مهمة السودان في انتقاله من دولة راعية للإرهاب وخصم للمجتمع الدولي خاض ضد بعض أطرافه معارك سياسية مضنية، إلى حليف في عملية تقديم تجربة واعدة للحكم الديمقراطي في منطقة لا تزال تفتقر إلى الدولة النموذج.