سعد القرش يكتب:

"حركة 3 يوليو".. التاريخ يعيد نفسه

في الأنظمة الشمولية ترتبط مصائر البلاد بالرموز، حقيقية كانت أم مصنوعة دعائيا، كما تتضبّب الرؤية انتظارا لنوبة إلهام علوية، ولا تناقَش هذه النوبات التي يتبعها تصفيق جاهز، ويسبقها تمهيد بمدفعية إعلامية يطلقها مَن يسوّغون كل سياسة، ويعزفون نغمات تناسب القامة والمقام والأجر الفوري، ورائدهم في هذا السلوك سائق التاكسي الذي لا يختار الطريق وإنما يذهب إلى حيث يريد الراكب. وفي الأفق المصري حاليا توجُّه يمهد لاستنساخ أسوأ تمثيلات النظم الشمولية، وقد جربنا في مصر طرفا من صيغة لها في ستينات القرن الماضي، وستتراوح إعادة إنتاجها بين المسخرة والمأساة؛ لاستنبات التجييش في غياب الإنجاز الاجتماعي والاقتصادي في عهد جمال عبدالناصر.

بدلا من مناقشة المسؤولية عن تصحير الحياة السياسية المصرية وتجفيف منابعها، يجري الآن التمهيد للبحث عن علاج سلطوي فوقي لبناء ديكور سياسي، بتعبئة جماهيرية تستهدف حشد المزيد من المصفقين، والاستهانة بذاكرة جيل تفتح وعيه على وعود ثورة 25 يناير 2011، وطمس طموحه المشروع إلى الحرية وترهيبه باحتمال عودة الإخوان إلى الحكم عام 2030، وإغراء هذا الجيل بلافتة صارت عنوانا لإحباط عمومي لن يزيله الاصطفاف تحت شعار “طلائع 3 يوليو” أو “حركة 3 يوليو”، وهو تاريخ عزل محمد مرسي في 3 يوليو 2013.

قلت “تصحير” لا “تصحّر”؛ لأن كل شيء جرى الإعداد له، بقضم متعمّد للمساحات المخصصة للأداء السياسي الطبيعي، وعند الإفاقة كانت العقول المؤهلة للتغيير قد أُجبرت على الصمت، أو أخفيت وراء الأسوار صحبة الذين فكّروا في تنافس يكفله دستور 2014. ولكن الدستور سيؤرَّخ له بكونه أول عقد اجتماعي يجري تغييره قبل اختباره، إذ خرجت مواد دستورية من العُلبة إلى المحو قبل تجربة مدى صلاحيتها. وكانت المادة رقم 140 تنص على أن رئيس الجمهورية “ينتخب لمدة أربع سنوات ميلادية.. ولا يجوز إعادة انتخابه إلا لمرة واحدة”، كان الدستور ينص على ذلك، وتم تعديله في أبريل 2019 بإضافة مادة تسمح ببقاء عبدالفتاح السيسي حتى عام 2030، إذ “تنتهي مدة رئيس الجمهورية الحالي بانقضاء ست سنوات من تاريخ إعلان انتخابه رئيسا للجمهورية في 2018، ويجوز إعادة انتخابه لمرة تالية”.

قبل تمرير التعديل حشد “شبيبة حسني مبارك” ممن يكتبون في الصحف الحكومية والخاصة جهودهم في الإلحاح على تعديل دستور لا يزال في الحضانة.

ما الذي يخيف نظام حكم صعد عام 2013 من عدوّه الإخواني عام 2030؟ إذا فشل نظام أو حكومة أو مسؤول صغير في شركة في إثبات كفاءة سياسية وإدارية خلال 17 عاما، فلن يغني التخويف من انقضاض المتربص. أن ينجح الإخوان في العودة فهذا دليل فراغ سياسي يسمح لمن نبذهم الشعب في غضبة كبرى عام 2013 بالعودة. لا يوجد حاكم يأمر شعبه بالإنصات إليه وحده إلا رسول يوحى إليه، ولكن السيسي يريد ذلك ويعلنه ويكرره.

تجربتنا مع الخطاب السياسي بعد 3 يوليو 2013 لا تطمْئن. في تجربة تعديل الدستور بدأ الأمر بإشارة السيسي، في 13 سبتمبر 2015، إلى أن دستور 2014 كتب بحسن نية، “والدول لا تبنى بالنوايا الحسنة فقط”. ولم يتطوّع ناصح أمين بمغامرة التحذير من الانحراف ببناء دولة استنادا إلى أوهام سوء النية، وإيضاح أن أفضل سمات الدستور هو حسن النية والرغبة في بناء دولة القانون. وبعد إشارة السيسي انطلق محللون تحت الطلب، من قوة الاحتياط الجاهزة للتطوع في خدمة كل الأنظمة، للدعوة إلى أن الدستور ليس نصّا مقدسا، وكأنهم لم يكتشفوا هذه الحكمة إلا بعد الإلهام الرئاسي.

وما يتردد الآن ويُكتب في الصحف الحكومية ليس اجتهادا شخصيا، فلا بد من دقّة على خشبة المسرح لبدء عرض مزعج على مستويين. أولهما يؤكد اليأس من تغيير حقيقي يحصّن المواطن؛ فلا يفكر في اللجوء إلى الخصم. المواطن هنا أشبه براكب سفينة مشتعلة في البحر، يفرّ من الحريق إلى الموت غرقا، وتقتصر حريته على اختيار نوع النهاية. وثاني وجوه الإزعاج هو الشبح التاريخي لكيانات تأسست في ظل أنظمة استبدادية، وأعضاؤها يتلقون تدريبا نفسيا وبدنيا أحيانا، يؤكد فكرة التمايز، ويؤدي إلى الانعزال عن محيطهم واعتبارهم طبقة أعلى. ثم تحولت هذه الفئة إلى تشكيلات قتالية هدفها حماية النظام لا الدولة. ولم يكتب لأي من تجارب “الشبيبة” أن تعمّر، لتناقضها مع طبائع التنافس السياسي. وبسقوط الأنظمة التي اقترحت الفكرة واستثمرتها تنتهي ظاهرة الشبيبة، وبنهاية النظام والظاهرة يبدأ بناء الوطن.

تبنّي مثل هذه التشكيلات ينسف فكرة الحرية، ويقضي على حق المواطن الفرد الواحد الأحد في أن يكون مواطنا فردا واحدا أحدا، لارتباط حصوله على حقوقه بالانخراط التعبوي، غير الحزبي بالمعنى السياسي للأحزاب، ولا يكون الصعود إلا عبر هذا الباب يسمح بمرور صفوة كاذبة تنمو كالفطر.

بعد حظر الأحزاب عام 1953 مرت مصر بتجارب لبدائل تسدّ الفراغ، فكان الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي العربي، والتنظيم الطليعي شبه السري لحماية النظام من أعدائه، ثم منظمة الشباب الاشتراكي، وهي وفقا للإعلان عنها في 21 يوليو 1966 “تنظيم سياسي مستقل له ممثلون في المستويات القيادية المماثلة في الاتحاد الاشتراكي العربي بعد أن توافرت لها عضوية تزيد على 30 ألف شاب وفتاة موزعين على وحدات أساسية بجميع محافظات الجمهورية”. وللمتأمل اليوم بعد عقود من الهزائم أن يحذر من الانحراف ببناء دولة استنادا إلى سوء النية وتدبير شيطاني أن يتساءل: تنظيم مستقل عن ماذا؟

مصر لا تحتمل طبقة مماليك جدد، وقد بدأت كلامي قائلا إن الرؤية الآن تتضبّب، ولم أجد كلمة تفي بالتعبير عن الخطر القادم أكثر من “تتضبّب”، ففيها تقطير لإيحاءات الكآبة وثقل ظل الحروف حين تجتمع في كلمة، وتأبى أن يزول الضباب إلا بجراحة.