محمد أبوالفضل يكتب:
أنا ومبعوث الأمم المتحدة السابق إلى ليبيا
يتشابك العام مع الشخصي أحيانا، ويمكن أن ينتج في النهاية قيمة لها دلالات سياسية قوية في فهم بعض الأزمات وآليات التعامل معها. ومهما بلغت هامشية التأثير بالنسبة إلى جوهر الأزمة فهو يحمل خاصية قد تكون مفيدة عند تحليل المضمون. ويتزايد المعنى إذا كان الشخص المسؤول عنها في حجم الدور الذي لعبه غسان سلامة مبعوث الأمم المتحدة السابق إلى ليبيا.
استقال أو أُقيل الرجل لا يهم، ففي الحالتين تصوّر أنه أدى مهمته على أكمل وجه، زاعما أنه وضع ليبيا على أعتاب تسوية سياسية واعدة بعد تدشين مؤتمر برلين، بينما يعتقد كثيرون أن الأزمة ازدادت تشابكا وفقدت الكثير من الفرص المواتية للحل بسبب تقديراته الخاطئة وتصوراته البعيدة عن الواقع، لأنها بدت منحازة إلى رؤية قوى ميليشياوية وجودها على الأرض غير شرعي أصلا، لكنه أسهم في منحها نفوذا سياسيا.
تضخمت هذه القوى معنويا وماديا جرّاء التساهل الذي أبداه المبعوث الأممي معها، حتى تحولت إلى رقم رئيسي في معادلة السلطة في طرابلس، وعندما تم تنبيه سلامة إلى خطورة هذا التضخم، اعتبر كل من يلفت النظر أو يوجه انتقادات لهذا المسلك يحمل أجندة معادية أو ينفذ تعليمات جهات بعينها تعرف أن خطواته لن تفضي إلى الحل المنشود في ليبيا.
كتبت في جريدة “العرب”، وغيري من الزملاء، العديد من المقالات والتحليلات حول الأزمة الليبية، ووجهت ملاحظات لبعض تصرفات غسان سلامة دون أن أعلم مدى متابعته لما أكتبه، فلم تربطني به علاقة من أيّ نوع على مدار مسيرته العلمية والسياسية، ولا أعرف مدى حرصه على قراءة ما يُكتب عنه، حتى علمت من أحد المسؤولين في مصر أن الرجل منزعج من الانتقادات التي أبديها على مهمته، خاصة بشأن موقفه من تيار الإسلام السياسي، للدرجة التي جعلته يحتفظ بكل المقالات التي كتبتها هنا في “العرب” أو بجريدة الأهرام المصرية.
لم أشأ الكتابة في أثناء جلوسه على مقعده، منذ علمت بالواقعة قبل حوالي ثلاثة أشهر، منعا للإحراج الذي قد يسببه الحديث للبعض في الأعراف الدبلوماسية، أما وأن سلامة ذهب إلى حال سبيله وترك منصبه الرفيع فقد خفّت مساحة الحرج، وأصبح من الممكن تناول الحدث ومعانيه السياسية، فمن حق القارئ المعرفة.
قادتني الظروف لمعرفة معلومات كثيرة عن الرجل ومهمته في ليبيا من خلال التواصل مع كثير من المصادر الليبية والمصرية، ونحيت جانبا كل ما هو شخصي أو يتعلق بعلاقاته السابقة واللاحقة الإنسانية والسياسية، وتناولت فقط كل ما يتعلق بطبيعة وظيفته كواحد من الشخصيات العامة التي يحق لكل كاتب التطرق لأدوارها سلبا أو إيجابا، ولم أخطّ حرفا واحدا له صلة بحساباته وعلاقاته الشخصية، وهي كثيرة وممتدة خاصة مع قطر وأذرعها.
مع ذلك بدا الرجل مستفزا مما كتبته عنه بهدوء، وتحدث مع بعض الأشخاص في محاولة للحصول على معلومات منهم عنّي، وهو ما عرفته بالصدفة من صديق يعرف سلامة جيدا، لأن الشخصيات التي تحدث معها لا تربطني بها علاقة مباشرة، ربما تعرفني بحكم عملي الصحافي، والأدهى أنه ألمح إلى أن كاتب المقالات شخصية “مصطنعة” غير حقيقية، أو بمعنى آخر اسم مستعار لشخص يعمل في جهة أمنية سرية.
توقفت عند هذه الملاحظة كثيرا لأنها كاشفة لمعدن الرجل، إذ من السهل على المبعوث الأممي أو أحد معاونيه بضغطة زر واحدة على غوغل التعرف عليّ، فلي كتابات كثيرة عن ليبيا وغيرها من القضايا العربية، والنتائج التي ستظهر له بسرعة وتؤكد له عملي في مجالي الصحافة والبحث منذ حوالي عقدين ونصف العقد، والمقالات التي كتبتها بـ”العرب” مبوّبة ومنظمة بطريقة تمكنه من الاطلاع عليها في يُسر وبتراتبية تاريخية مريحة على مدار سبع سنوات.
تكشف هذه المسألة إلى أيّ درجة كان غسان سلامة مهتما بما يُسطّر عنه من قريب أو بعيد، ليس من باب الاستفادة والحرص على تصويب الأخطاء، لكن على سبيل معرفة كيف يفكر من يتصوّر أنهم خصوم له، في حين لو اهتم بما كتب عن دوره في ليبيا من قبل كثيرين لأصبح لبعثة الدعم شأن مختلف، وما وصلت إلى هذه الحلقة الضيقة من الانسداد السياسي والأمني، وما اضطر هو إلى الاستقالة بذريعة المرض والإجهاد.
يظل سلامة صفحة في سجل الأزمة الطويلة، وقد يؤرخ بأنه كان الأشد خطورة عليها، مقارنة بمن سبقوه من مبعوثين دوليين في هذه المهمة، لأن توجّهاته فتحت الباب على مصراعيه للتدخل التركي وانتشار الإرهابيين والمرتزقة وتصاعد دور تيار الإسلام السياسي في ليبيا.
أكّد تعامله المبكر بطريقة “شوفينية” في إدارة الأزمة أنه لا يعبأ برأي المخالفين له، ولا يطرب لما قالوه ولو كان في صميم مساعدته، فقد تملكت رأسه فكرة أنه يعرف أكثر من اللازم، وأكثر من غيره، وعندما يُظهر استجابة مؤقتة أو رمزية لأسباب دبلوماسية سرعان ما يقوم بسحبها، والعودة إلى نزقه السياسي، وإيمانه بالمحاصصة والطائفية دون اعتداد بطبيعة البيئة التي يطبق فيها نموذجه، وفحص النتائج التي أحرزها في مهام سابقة.
سمعت عنه الكثير من القصص التي تبين جوهره السياسي، إحداها أن الرجل أصبح في العرف الدبلوماسي غير موثوق فيه، فلديه قدرة على التسلل بنعومة إلى قلوب المتحدثين معه، ويظهر غير ما يبطن، يبدو قريبا منهم ومتفهّما لكل ما يقولونه أمامه ومتعاونا لأبعد مدى، وعندما ينتهي اللقاء ويعود إلى مقره في طرابلس تحت سمع العصابات المسلحة وبصرها وسيطرتها يتصرف بطريقة مغايرة، فقد كان مستمعا جيدا ولينّا وطيّعا ومحاورا هادئا خارجها، وعند عودته إلى هذه الحاضنة يقترب من رؤية التيار العقائدي وينطق تقريبا بما ينطق به قادته.
تمسك بموقفه الإيجابي من الإسلام السياسي، راوغ وناور وقفز على حواجز عديدة طالبته باتخاذ مسافة واحدة بينه وبين غيره من القوى الليبية، صمم على أن تكون عناصر هذا التيار بكل ما أظهره الإرهابيون من مخاطر في طليعة التوازنات في ليبيا، بل والمتحكم في كثير من تفاصيلها، والتف على المبادرات التي أرادت تنحية الإخوان وحلفائهم أو نادت بأن يكون دورهم متسقا مع وزنهم النسبي على الأرض وليس متعاظما كما خطّط المبعوث الأممي.
ذهب غسان سلامة غير مأسوف عليه، وهو على يقين زائف أنه حقق أكثر من المطلوب، بينما يراه الليبيون ضلعا في النكبة الجديدة التي تعيشها بلادهم، لأنه تركها في منتصف الطريق، لا هو أكمل خطته على المسارات الثلاثة، العسكرية والاقتصادية والسياسية، والتي دشنها مؤتمر برلين، وكان من الممكن تصويبها تدريجيا، ولا هو ترك القوى الوطنية تتصرف بالطريقة التي تتناسب مجتمعيا مع حقيقة ما يجري في ليبيا.
غادر منصبه، ولا أحد يعرف من سيأتي بعده، وهل سيكون الخليفة قادرا على استكمال خطته التي تواجه جملة من العثرات منذ ولادتها في ألمانيا وهي التي لم تنتج شيئا ملموسا بعد نحو شهرين من العمل بها، فإذا كان وجوده على رأس بعثة الدعم لم يؤد إلى نتيجة، فهل يمكن أن يفضي غيابه إلى إحراز ما عجز هو نفسه عن تحقيقه؟
كل الطرق المحلية والإقليمية والدولية تقود إلى إغلاق صفحة غسان سلامة بكل ما حملته من رؤى غائمة تسببت في زيادة دور الميليشيات والمرتزقة، حيث باتت السنوات الثلاث التي جلس فيها الرجل على رأس بعثة الدعم الأممي في ليبيا فاصلة وتؤرخ لما قبلها وما بعدها.