محمد أبوالفضل يكتب:

مصر لا تستطيع مواصلة الحذر الإقليمي

عندما كتبتُ هنا الأسبوع الماضي، مقال “متى تتخلى مصر عن حذرها الإقليمي” كان السبب الرئيسي لقول ذلك أن الدولة تملك مقومات حقيقية للتفاعل بشكل كبير، وهناك فرصة أمامها للتمدد في ظل العقبات التي تواجهها قوى منافسة غير عربية، مثل إيران وتركيا، ولم يكن في الحسبان أن أحدا في المحروسة سيهتم بقراءة المقال والرد عليه بشكل شخصي، وبأن القاهرة بدأت فعلا تتخلى عن ترددها الإقليمي، وتتبنى أفكارا تسير عكس اتجاه الحذر العام.

أكّد دبلوماسي مصري في اتصال هاتفي، أن ثمة شواهد كاشفة حدثت خلال الأيام يمكن استخدامها كدليل على التغير التدريجي الملحوظ، لكن هذا المحدد يجب إخضاعه للقياس من زاوية المعطيات الإقليمية والدولية الراهنة والأجواء التي تتحكم في تحركات الدول.

عندما لعبت مصر دورا محوريا في خمسينات وستينات القرن الماضي كانت هناك محددات تسمح بقدر من الخشونة، واليوم تبدلت الأحوال ودخلت تطورات تستوجب مراعاة المنظومة العالمية وتوازنات القوى فيها، والمفردات التي تشير إلى تعدد القطبية، وعدم تجاوز الخطوط الحمراء. فروسيا فلاديمير بوتين نفسها بدأت حذرة ثم تخلت عن ذلك بنعومة، والآن تتسلل إلى بؤر الصراعات وتجد تأييدا للكثير من تحركاتها.

لم يقصد الدبلوماسي مقارنة القاهرة بموسكو أو المساواة بينهما بأي حال، غير أنه كان يريد التأكيد على أن خطوات الدول يجب مراعاتها بدقة، وفقا للقدرات والطموحات والفرص والأهداف والمساحات المتاحة للحركة والنتيجة المتوقعة.

اختلاف البيئة ومكوناتها الإستراتيجية ليس سببا وحيدا للحالة التي جعلت مصر حذرة أكثر من اللازم في تعاملها مع القضايا التي تعنيها وانخراطها المحدود في الأزمات التي تحيط بها، بل هناك تغيّرات واسعة في طبيعة تفكير القيادات التي تقبض على زمام الأمور في مصر وفي غيرها من الدول.

أصبحت مصادر المعلومات مكشوفة ولا تحتمل تخمينات كبيرة لتقديرات الموقف في حالتي السلم والحرب، وتستوجب المقاربات التي تهتم بالأزمات الساخنة رؤية فاحصة ودقيقة. وما يجعل عملية اتخاذ القرار بها علامات واضحة من التردد هو وجود أجزاء غاطسة أو غير محسومة كفيلة بإحداث تغيير بنيوي في بعض القرارات.

قال الدبلوماسي إن الدولة المصرية استجمعت قواها المتفرقة بعد فترة من المعاناة بما يصعب التضحية بها في مغامرات غير محسوبة العواقب تحت ذريعة الجرأة وما شابهها من مفردات توحي بالعجز السياسي أكثر من القوة.

ولعلّ امتلاك جيش قوي وأنواع مختلفة من الأسلحة المتطورة يقلل من فكرة استمرار الحذر فترة طويلة، فهذه المعدات للردع والفعل معا، وغير مستبعد استخدامها عندما يكون هناك خطر يهدد الأمن القومي، ففي الحالات التي يصبح فيها الوجود مهددا، من الطبيعي عدم تغافل عناصر القوة، لكن هذه تحتاج لمقدمات، وتأتي بعد استنزاف كل السبل السياسية.

من الشواهد التي أراد الدبلوماسي لفت الانتباه إليها كمؤشر على التغير، الجولات المكوكية التي قام بها كل من وزير الخارجية سامح شكري واللواء عباس كامل رئيس جهاز المخابرات لعدد من الدول العربية وغير العربية، فالأول حمل على عاتقه توضيح رؤية مصر في أزمة ملف سد النهضة الإثيوبي، مستفيدا من قرار الجامعة العربية الداعم للقاهرة، وقبل دخول تغيير في المعادلة الراهنة.

وقدم الثاني خلال زياراته المتعددة المتتابعة في أفريقيا وغيرها معلومات موثّقة حول الدور التركي والقطري في دعم التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وتأثيرات ذلك على الصراعات والنزاعات في المنطقة، وضرورة التصدي لهما.

وهنا يتجاوز الدور المصري مسألة تقديم المعلومات وفضح التصرفات، والارتكان إلى آلية تجعل من القاهرة رأس حربة في المواجهة.

لم تكن الجولات الموسعة ضمن الحسابات المصرية، فقد كانت القاهرة تكتفي بردود الأفعال عندما تجد هناك ضرورة وفِي حدود ضيقة، فرغم التهديدات التي تمثلها التوجهات التركية والقطرية والإيرانية أيضا، التزمت بالحذر ولم تبادر بكشف مخططات هؤلاء القذرة كما تفعل اليوم. تحركت عندما تيقنت أن ضبط النفس المبالغ فيه بات خطرا كبيرا، وأن هذه الدول بدأت تتمادى في ممارساتها ما ينعكس على مصالح القاهرة والدول العربية.

أدى الصبر الطويل على تصورات إثيوبيا إلى إلحاق الضرر بموقف مصر، حيث وجدت أن تمسكها بالمحادثات والمفاوضات والوسطاء ومنح الفرصة بعد الأخرى لأديس أبابا سوف يجلب لها خسائر كبيرة.

لذلك سارعت بشرح الموقف إقليميا ودوليا، لأن القضية جد خطيرة ويمكن أن تتدحرج إلى قنوات لم تكن مصر راغبة فيها، ولعل التشديد على عبارات من قبيل أن المياه خط أحمر، ولن نسمح بعطش الشعب المصري، والمياه مسألة حياة، كلها من المعاني التي توحي بأن الحذر المصري تكتيك قابل للتغيير وليس إستراتيجية جامدة.

تطرق الدبلوماسي إلى نقطة خفية، قد لا ينتبه إليها كثيرون، وهي أن مؤسسات رفيعة في الدولة المصرية تجري تغييرات غير منظورة في بعض الهياكل التي أسهمت في بطء التحركات، وأدت إلى ترسيخ مفهوم الحذر في مواجهة الأزمات، حيث أدت دورها في مرحلة استوجبت تبني سياسة يغلب عليها التريث، ولن تستطيع مواصلة هذا الدور لما هو أبعد من ذلك، حيث يفرض تفاقم الأزمات مواجهتها وعدم تسكينها والتنصل من بترها، والقبض على دفّتها قبل أن يقوم آخرون بذلك، وهي عملية سوف تظهر بصماتها قريبا.

تحتاج هذه المهمة إلى اختيار شخصيات مؤثرة وتمتلك أذهانا منفتحة على العالم وطقوسه وخبيرة في قوانينه، وإلى إيمان بحتمية الدور الإقليمي، لأن القاهرة الحذرة والمنكفئة على نفسها تغري بالعدوان عليها وتحفز الآخرين على سد فراغها، حيث توفر لخصومها الفرص اللازمة لتمددهم على حسابها.

تثبت تجارب التاريخ أن الحفاظ على الأمن القومي يبدأ من خارج حدود مصر، بما يتطلب الحصول على أفكار من خارج الصندوق، وهي العملية التي يشرف عليها الرئيس عبدالفتاح السيسي بنفسه، فقد رفض وتحفظ على كثير من الأسماء التي عُرضت عليه لتولي مهام لها علاقة برسم السياسة الخارجية وتنفيذها، والعنصر المشترك في هذا المحدد أن الفترة المقبلة سوف تشهد سياسة مصرية مغايرة، تتبنى شعار “قليل من الحذر كثير من الجرأة”، وفقا لتقديرات تراعي التشابكات الإقليمية والدولية.

نسجت القاهرة شبكة جيدة من العلاقات مع دوائر متباينة في الغرب والشرق خلال فترة الحذر الزائد، مكنتها من تخطي مرحلة غاية في الحساسية بأقل تكلفة ممكنة، وساعدتها على إعادة ترتيب أوراقها، كي تتمكن من الانطلاق، فحسب رأي الدبلوماسي المصري، لا توجد دولة تستطيع تحقيق أهدافها وهي منكمشة ومترددة على الدوام، كما أن هذا التوجه يقود إلى الارتباك الذي ظهرت ملامحه أحيانا في السياسة الخارجية، وكبّلها ومنعها من التعامل بمرونة مع الأزمات الطارئة أو أدى إلى العجز عن التصدي للمفاجآت في بعض الصراعات.

بدأت المبادرة كسلاح يسيطر على عقول الكثير من المسؤولين في أعلى المناصب والمستويات، لأن طبيعة المرحلة المقبلة تتطلب التعامل معها وفقا لآليات قادرة على مواجهة التحديات في جميع الأزمات التي لها علاقة بمصر ومصالحها.

لم تستطع الليونة فكّ شفرات وحل ألغاز بعض الأزمات، ويؤدي الاستمرار على هذا النهج إلى خسائر تهدد الأمن القومي مباشرة، الأمر الذي جعل التخلي عن الحذر واجبا وطنيا، بعد اتخاذ الخطوات اللازمة التي تساعد على تفهم المجتمع الدولي لاحتمال اللجوء إلى خيار الخشونة، وربما تكون إثيوبيا أول اختبار جدي للإعلان عن صفحة جديدة وطي أخرى قديمة.

حرص الدبلوماسي في نهاية كلامه على التأكيد على أن فعل الخشونة في الأعراف الدولية يتجاوز المفهوم العسكري التقليدي، فهناك تصرفات أشد قسوة من ذلك، المهم أن تكون الدولة، أي دولة تمتلك أدوات تمكنها من الحفاظ على مصالحها بطرق تراها مناسبة، ليس من مكوناتها استمرار سياسة الحذر.