محمد أبوالفضل يكتب:

السودان نموذج للتحول الديمقراطي في المنطقة

تواجه مكونات السلطة الانتقالية في السودان جملة من التحديات أثرت سلبا على قدرتها في حل الكثير من الخلافات، وبدأ يلوح في الأفق شبح انتكاسة حقيقية قد تمنعها من العبور بالبلاد إلى الاستقرار وبر الأمان، بالتالي تعثر تجربة تكريس الحكم المدني التي تتطلع إليها القوى السياسية بعد نجاحها في الإطاحة بنظام الرئيس عمر حسن البشير.

وجدت الحكومة التي يقودها عبدالله حمدوك في الدعم الذي تتلقاه من قوى إقليمية ودولية عديدة فرصة جيدة للتمسك بالأمل والشروع في الحصول على نموذج متماسك لتجربة ديمقراطية ناضجة، ورفضت الاستسلام للضغوط التي تواجهها في الداخل، ومحاولات الابتزاز التي تتعرض لها من جهات خارجية، وخوفا من أن تخور قواها أمام الأزمات المتراكمة أو تفشل في تفويت الفرصة على المتربصين بها في مؤسسات عدة، لجأت إلى الأمم المتحدة لتأمين عملية التحول الديمقراطي بطريقة ناعمة.

مثّل الخطاب الذي وجهه حمدوك للأمم المتحدة منذ شهرين مفاجأة غير متوقعة للبعض، وخطوة ملحة بالنسبة لآخرين، حيث اعتبره الفريق الأول دعوة لتصبح المنظمة الدولية رقيبا فعليا على السودان بما يقلل من سيادته، فوجود بعثة سياسية يعني الإشراف على كل كبيرة وصغيرة، بينما نظر إليه الفريق الثاني على أنه فرض عين لحماية البلاد من تغول المؤسسة العسكرية، وصد المحاولات الخفية التي يقوم بها فلول النظام السابق لإرباك الحكومة.

بدأت تتوالى تحركات إيجابية خلال الأيام الماضية تؤكد في محتواها أن المجتمع الدولي يدعم التجربة الحالية في السودان، ولم تقتصر عمليات المساندة على العبارات الدبلوماسية التقليدية والحرص على تقديم مساعدات معنوية، بل امتدت إلى اتخاذ خطوات تعزز الدور الذي تلعبه حكومة حمدوك، وتشد من أزرها في التصدي للعراقيل التي تهدد تجربتها في طي صفحتي الحكم العسكري والإسلاموي تماما، وتمهيد الطريق لتكريس الحكم المدني.

شرعت الأمم المتحدة في الاستجابة لطلب الحكومة السودانية لإرسال بعثة سياسية تمارس عملها في الأول من مايو المقبل، حيث أقر مجلس الأمن أخيرا مشروع قرار لتكوين “بعثة بناء السلام والسياسة المتكاملة في السودان” لتحل مكان بعثة “يوناميد” العسكرية بعد انتهاء مبررات وجودها في دارفور، ولفترة تمتد لعام قابلة للتجديد، وتشمل ولايتها جميع الأراضي، بغرض دعم الانتقال إلى الديمقراطية، والمساعدة في صياغة دستور جديد والإعداد للانتخابات.

كما يعتزم الكونجرس الأميركي مناقشة مشروع قانون تلقاه في أوائل مارس الجاري يدعو إلى حماية عملية التحول الديمقراطي في السودان، ويُشجع على الشفافية المالية، والمُساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان، ويحض على دعم تطلعات المجتمع المدني والوقوف إلى جواره.

اعتبرت دوائر سياسية واقتصادية عديدة في الولايات المتحدة أن رفع اسم السودان من على قائمة الدول الراعية للإرهاب بات مسألة وقت، وهناك تحركات يقوم بها الجانبان لغلق بعض الأبواب المفتوحة، لجهة التعويضات المادية المطلوبة، أو التفاهم حول ملفات عالقة في شؤون التعاون والتنسيق لمكافحة الإرهاب في المنطقة، كعقبة حالت دون تطبيع العلاقات.

كشف المركز الأفريقي لحقوق الإنسان بالسويد مؤخرا عن حملة يقوم بها في دول الاتحاد الأوروبي لرفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأميركية، في إشارة تؤكد الأهمية السياسية التي تحملها هذه الخطوة وما تمثله من قيمة مضافة للحكومة في الداخل والخارج، وأنها تلتحف بغطاء واسع من التأييد يمكنها من نجاح خطتها في أن يصبح السودان نموذجا للحكم المدني الواعد، وهي توحي أيضا أن الحفاظ على التحولات الناعمة مطلبا دوليا.

تجد هذه الفكرة رواجا لدى كثير من المتابعين في الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، ويمكن أن يعوّض السودان الإخفاقات التي تعرضت لها هذه الدول في المنطقة العربية حيال دعم الديمقراطية عقب بزوغ نجم ما يسمى بالربيع العربي الذي يُنظر إليه كأنه كابوس لبعض الدول، وأدى إلى صراعات ونزاعات بدلا من الاستقرار السياسي، ما وصم الحريات التي تريدها بعض القوى العالمية بأنها خطوة تندرج في باب المؤامرة.

حاولت جهات غربية عديدة تقديم نماذج للديمقراطية العربية باللجوء إلى استعادة بريق مصطلح “الفوضى الخلاقة” لصاحبته كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق، الذي ثبت فشله في العراق وغيره من الدول العربية التي حاولت واشنطن تطبيقه عليها دون مراعاة لخصوصية كل تجربة.

تمثل الخرطوم ركيزة جديدة للديمقراطية بدون اللجوء إلى توسيع نطاق الفوضى السياسية والأمنية، ويكفي ما هو موجود منها في مناطق سودانية متباينة، وأي زيادة في رقعة أي منهما يمكن أن تدخل البلاد في دوامة يصعب تجاوزها قبل دفع أثمان باهظة لذلك.

تبدو الأجواء مهيئة في السودان لتقديم نموذجه مع وجود حكومة تملك تطلعات وطموحات للحكم المدني، مدعومة بظهير شعبي واسع تمثله قوى الحرية والتغيير التي تحرص على تجديد دمائها الآن وتجنب الدخول في مأزق التفكك، ومؤسسة عسكرية فقدت جانبا من قدرتها على تدبير الانقلابات، وأحزاب سياسية متغلغلة في الشارع، ومجتمع يدرك قيمة الحريات العامة وما تنطوي عليه فكرة الديمقراطية من أهمية حيوية، ناهيك عن خبرات تاريخية عميقة.

تحتاج البيئة الإقليمية إلى تجربة ناضجة تشع على الدول المجاورة لها، والتي تعاني معظمها من صعوبات سياسية جراء وضع السلطة في يد ضخمة حاكمة معينة لعقود طويلة، وتكاد تكون المنطقة أصيبت بحالة من التكلس والعجز، جعلت التفكير في الديمقراطية رفاهية لا تحتملها الأوضاع الراهنة، كما أن الدول الغربية، المعنية بالأمر، تفتقد لديناميكية دعم النماذج الإيجابية، لأنها إذا تعارضت مع مصالحها تؤيد الثانية وتتوقف عن التشدق بملف الحريات.

جاء السودان وكأنه يمثل وجبة شبه جاهزة، يحتاج فقط إلى مساندة سياسية ليتخطى المطبات التي تعتري سبيله، ويمكن تحقيق انتصار واضح بتكلفة زهيدة، لأن المناخ العام يبدو مستعدا لتقبل تجربة من السودان العربي الأفريقي، والمطلوب توفير وسائل حماية من المجتمع الدولي تبث الاطمئنان في قلب وعقل الحكومة وترهب الجهات التي تسول لها نفسها الاعتداء عليها.

يأتي تدشين مهمة البعثة السياسية الأممية خطوة أولى في هذا السياق، لأن السودان سيكون بدءا من مايو المقبل في رعايتها، وكل الخطوات التي سيتم اتخاذها توضع تحت إشرافها، كما أن توقيت المرحلة الانتقالية ورمزيتها وما تشمله من حلول لقضايا مستعصية سوف تتم تحت سمع المنظمة الدولية وبصرها، ما يكبح أي جهة عسكرية أو مدنية تتجرأ على التفكير في تغيير قواعد اللعبة التي رسمتها الوثيقة الدستورية للانتقال بسهولة للحكم الديمقراطي.

تحتاج الدول الغربية التي تنادي بتعميم الديمقراطية في العالم إلى دولة نموذج تخوض تجربة ناجحة في كل منطقة، يمكن أن تكون هاديا ومرشدا وربما ملهما للمحيطين بها، فلم تعد فكرة فرضها بصورة فوقية مجدية، كما أن الحيل والألاعيب والضغوط التي كانت تمارس فقدت زخمها بعد أن باتت محمّلة بهواجس وشكوك تمنع قطاعات كثيرة من التجاوب معها. ولذلك يبدو السودان جاهزا أكثر من غيره لتحمل هذه المهمة. كما أن تعثره قد يؤدي لوأد الفكرة.