محمد أبوالفضل يكتب:
التباعد الاجتماعي والتقارب السياسي في العالم
لا يحمل هذا العنوان تناقضا في الشكل أو المضمون، فقد كشفت جائحة كورونا عن الكثير من الازدواجية عند الأفراد والمجتمعات والحكومات، وضربت عرض الحائط بحزمة من القيم الثابتة والمعايير التي على أساسها يمكن ضبط المفاهيم، وخرقت حواجز اجتماعية وسياسية لم يتخيل كثيرون حدوثها، ولا نعلم حتى الآن بالضبط أين تتجه الأمور عقب الخروج من المحنة.
وقفت مشدوها وأنا أستمع إلى كلمة ألقتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لأفراد شعبها قبل أيام، وهي تناشدهم التزام التباعد الاجتماعي حفاظا على حياتهم، بين كل جملة وأخرى تذكّر بهذا المعنى الذي جاء في صيغ كلها تصب في بوتقة عدم الخروج من المنازل كعلاج وحيد للفايروس في هذه المرحلة. سمعتها تتحدث عن الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان والشفافية والمصداقية، ثم تعود لتذكّر بفضيلة التباعد.
كان خطاب المستشارة الألمانية عاطفيا أكثر من اللازم، اختلطت فيه المكونات السياسية مع الصحية، والإنسانية مع العلمية، لم تتوقف عن التحذير من مغبة خرق التباعد الاجتماعي، باعتباره طوق نجاة، وهو ما تكرر في خطابات الكثير من الرؤساء والمسؤولين على مستوى العالم، وبدا أشد صرامة في الدول التي تُعلي من الحريات الشخصية، ولم يكن بالدرجة نفسها في الدول التي تتراجع فيها هذه القيم، حيث امتلأت الشوارع بالبشر، كأنهم غير عابئين بمصيرهم، أو تتساوى الحياة مع الموت.
ربما تكون هذه من المفارقات النادرة التي تستجيب فيها المجتمعات الحرة للعزل، وترفض المجتمعات الأقل في نسب الحرية أو تقع على هامشها الاستجابة.
كل يوم تقريبا يقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعرض تطورات الموقف في بلاده دون أن يتردد في الدعوة إلى التباعد الاجتماعي أيضا، ربما اتخذ هذه الخطوة متأخرا أو على مضض، لكنه كررها مرارا كوسيلة لتقليل أعداد المصابين، وقدم الحوافز المادية اللازمة للأفراد والشركات الصغيرة التي تصل إلى ثلاثين مليون شركة لعدم الخروج عن النص.
المثير أن الحظر والحجر وكل المفردات الدالة على التباعد الذي ينادي به كبار المسؤولين في العالم، يقابلها تقارب سياسي نادر على الصعيد الداخلي للدول، وعلى مستوى التفاعلات الخارجية، وتقارب مثير في الالتفاف حول مقاومة وباء واحد لم يترك إقليما إلا ووصل إليه. قد تكون نسب الإصابات والوفيات متفاوتة، غير أنها تكفي للدلالة على أن المصاب واحد.
تلاشت تقريبا المناوشات التقليدية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة، وهما في أوج الحملة الدعائية التي تسبق الانتخابات الرئاسية، في نوفمبر المقبل، والتي يمكن تأجيلها إذا واصلت الجائحة حصد المزيد من الأرواح، وانصبت اهتمامات الحزبين على البحث عن آليات ناجعة للعلاج، والحد من الخسائر الاقتصادية.
ويقف ترامب في مؤتمراته الصحافية وهو زائغ البصر، لأنه يدرك أنه يواجه أسوأ كابوس لم يتخيله عقل، بعدما اعتقد أن الفرصة في إعادة انتخابه مرة ثانية شبه مضمونة، واتخذ الكثير من الإجراءات السياسية التي تعزز مكانته في المجتمع الأميركي.
اختفت الحملات الإعلامية الصاخبة وتوقف ضجيج الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي، لم نعد نرى أو نسمع عن كل من جو بايدن ومنافسه ساندرز. انتهت مبكرا أصعب معركة انتخابية قبل أن تدق ناقوسها. لأول مرة تصبح هموم المجتمع الأميركي بشتى أطيافه السياسية منصبّة على قضية مجابهة فايروس كورونا.
تستطيع أن تمد الخيط السياسي على استقامته في غالبية دول العالم، وتجد أن النتيجة البارزة لكورونا توحيد الشعوب والقوى السياسية للتصدي له، لا تجد صوتا يعلو لمعارض هنا أو هناك، ولا تجد التراشقات والتجاذبات المعروفة بين المعارضة والحكومة.
أدت الأزمة إلى زوال الكثير من الحدود والمسافات السياسية داخل الدول، للدرجة التي جعلت بنيامين نتنياهو زعيم حزب الليكود في إسرائيل وخصمه اللدود يتفاهمان على تشكيل حكومة وحدة وطنية بالتشارك بينهما، بعد مخاض عظيم وثلاث جولات من انتخابات الكنيست.
تسبب كورونا في تضييق الهوة السياسية شبه المستحيلة بين الولايات المتحدة والصين، فبعد سلسلة طويلة من الحروب التجارية والاتهامات المتبادلة ومسؤولية كل طرف عن نشر الفايروس، اقتربت واشنطن وبكين من التفاهم على قاعدة الحرب ضد الفايروس، وربما يجري التمهيد لصياغة منظومة جديدة من العلاقات المشتركة بين الطرفين تخمد براكين الغضب السياسي بشأن الكثير من القضايا الحيوية.
أوجدت بيئة جيدة لإمكانية التفاهم على احترام الآخر وفقا لمجموعة كبيرة من المصالح المتبادلة تعلي من شأن المضامين الإنسانية وتخفف من حدة الخلافات السياسية.
من المبكر توقع الشكل النهائي لتداعيات فكرة الانعزال والتفكك الاجتماعي الذي قد تصل إليه دول كثيرة بعد انقضاء الجائحة، لكن هذا هو الوقت المناسب لإعادة النظر في جملة من الملفات السياسية التي وضعت مناطق متباينة أمام فوهة حروب ونزاعات، وأودت بحياة الآلاف وشردت الملايين من المواطنين حول العالم.
منتظر أن تلعب محنة التباعد الاجتماعي دورا إيجابيا مستقبلا، وذلك عبر محاولة الاستفادة من دروسها العميقة كي تدفع القادة نحو تحويل كورونا إلى منحة لتطوير العلاقات السياسية بين الدول، وخلق بيئة مناسبة لترفع كل قوة يدها عن التدخل في تغذية المعارك أو الدفع باتجاه الصراعات وخوضها مباشرة أو بالوكالة، ووصل الأمر في بعض الدول إلى تلاشي الفواصل بين المتحاربين، ولا نعرف أحيانا من يقتل من ولماذا.
لم تعد الكثير من القوى الإقليمية والدولية في الوقت الراهن لديها الفوائض التي تدفعها إلى الإمعان في المزيد من التدخل في النزاعات الخارجية وفرض الهيمنة على الأوضاع في بعض المناطق القلقة، أو العمل على تكريس النفوذ، كما كان الحال قبل نحو شهرين.
يبحث البعض عن تقليل الخسائر، وربما الخروج الآمن، لأن الفترة المقبلة سوف تتغير فيها معالم التمدد التي سادت العالم، ولن تأخذ شكل التدخل المباشر، ومنتظر أن تكون هناك أجندة جديدة يتبناها المجتمع الدولي، تحددها القوى المنتصرة في الحرب على كورونا.
تراجع الاهتمام بالصراعات الجارية في المنطقة، في العراق وسوريا والصومال واليمن وليبيا..، حتى الحرب على الإرهاب أصابها نصيب من الملل، وبقدر ما تكون هذه المسألة مساعدة في تهيئة الفرصة للتنظيمات المتشددة، غير أنها يمكن أن تهيئ فرصة أيضا للتكاتف ضدها، والحد من التناقضات السياسية بين الدول التي تاجرت أو استغلت هذا الملف.
هل لدى إيران القدرة الآن على مواصلة تدخلها السافر في العراق ولبنان وغيرهما، وهي تواجه أزمة مستعصية بسبب كورونا، والتي تحوّلت من حرب صحية إلى سياسية؟ هل تستطيع تركيا ممارسة تصرفاتها السلبية بنفس الدرجة في كل من سوريا والعراق وليبيا، وهي تواجه أزمة متفاقمة بسبب سرعة انتشار الفايروس؟
يمكن القياس على ذلك في مستويات أدنى تتعلق بالجماعات والميليشيات التي تدور في فلك كل من طهران وأنقرة، فمن المؤكد أنها ستعاني من ربيع مظلم، يفرض ترتيب الأوراق السياسية، وإيجاد صيغة للتفاهم بين قوى رئيسية لوقف التدهور الذي تسببتا فيه. المهم أن الخروج من أزمة كوفيد – 19 ومنع تمحوره مرة أخرى قد تكون له تبعات سياسية إيجابية.