محمد أبوالفضل يكتب:
كورونا يمنح البجعة السوداء قابلية للحياة السياسية
قدّم باحثون في مجال الفايروسات دراسات علمية منذ سنوات حذّرت من احتمال ظهور أنواع أكثر فتكا، مثل كورونا المستجد وعائلات أخرى متوقع أن يشهدها العالم مستقبلا عندما يكتمل تمحورها. لم تنتبه جيدا الدوائر المعنية بالأمر لتتخذ الاحتياطات الواجبة، بدلا من استهلاك الوقت الحاصل حاليا للتوصل إلى لقاح مناسب لـ“كوفيد – 19” الذي لا نعرف متى يمكن خروجه للنور وإجازة استخدامه طبيا.
يستخدم التوقّع في علوم عديدة على سبيل الحماية من المجهول، بينما تظل هذه من قبيل العصف الذهني في المجال السياسي، ولها فروع عديدة، أبرزها ما يعرف بنظرية “البجعة السوداء”، وتعتمد على توقّع ما يصعب توقّعه بالنسبة للأحداث، فالسائد أن كل البجع أبيض.
عندما تم اكتشاف وجود نوع أسود في أستراليا منذ عقود تحطمت الفكرة الرائجة سابقا، وأوحت إلى خبراء العلوم السياسية بتوظيفها في مجالهم، فثمة تطورات لم يخطر حدوثها على بال، لكن جرى التحسب لها وفقا للبجعة السوداء.
ضرب كورونا كل التوقّعات الخاصة بالبجع وأنواعه، من الناحية السياسية، وأثبت أن وباء صحيا واحدا قد يكون كفيلا بحمل تداعيات تُحيّر العالم في كل المجالات تقريبا، سياسية واقتصادية وأمنية.. وله تأثيرات على البشرية جمعاء، بالتالي من الواجب تغيير المسارات في فضاءات لم تخطر على عقل عالم أو خبير أو مجتهد، كما هو الحال بالنسبة لكورونا.
وضعت الجائحة ومراراتها المتنوعة قواعد جديدة في التفاعلات المختلفة التي يصعب حصرها حاليا، ومرجح أن نرى جيلا عليه أن يتعامل مع الأحداث والأمراض غير المتوطنة، ولا يمنح ما هو متوقع الكثير من الاهتمامات، فقد صار أمرا عاديا يمكن أن يقوم به البسطاء، بينما من يفكرون في المستقبل وشواغله وتعقيداته عليهم الانتباه لكل ما هو غير مرئي، لأنه الأخطر والأشد تدميرا، فكل المشكلات والجوائح والأزمات المنظورة من السهل تطويعها.
أرخى كورونا بحمم كثيفة من القلق والتوتر لم تطرأ على عقل بشر، هنا مكمن الخطورة، لأن انخفاض أسعار النفط مثلا إلى أدنى مستوى تم تخيله، لم يكن بعيدا عن أذهان دول نفطية خليجية، فوضعت خططا طموحة منذ سنوات لعقود مقبلة دون الاعتماد على هذه السلعة فقط، وهي توقعات فطنة، غير أنها لا تبتعد عن فلسفة البجع الأبيض المعتادة.
يجد المهتمون بالتطوير أنفسهم في حيرة كبيرة، فإذا كان وباء واحد أحدث كل هذا الانهيار، فما بالنا إذا تكاثرت الأوبئة، وهو التحدي الحاسم الذي يتجاوز قدرات علماء الفايروسات، لأن المتابعة يجب أن تمتد إلى ملفات أخرى تبدو بعيدة عن أعين المهتمين، أو بمعنى آخر ستتحول حياة الدول والشعوب والقوى الفاعلة إلى بجع أسود، والتفكير في كل ما يصعب حدوثه.
بدأ اهتمامي بهذه النظرية منذ حوالي عشر سنوات، عندما طلبت مني إدارة تحرير مجلة السياسة الدولية المصرية كتابة مقال مطوّل عن مصير الأزمة اليمنية، بعد حدوث انتفاضات وثورات في دول عربية عدّة، وفقا للقواعد التي أرستها البجعة السوداء، ونشر بالفعل في عدد يوليو 2011، وانصبّت فكرة المقال على حدوث تدخل عسكري منظم سوف تقوم به الولايات المتحدة ذاتها، وغزو اليمن والسيطرة على مقاليد الأمور فيه، وتحديات ما بعد الخطوة.
طبعا لم يحدث الغزو مباشرة، وربما لن يحدث، لكن الموضوع بدا شيّقا ومتسقا مع فكرته الرئيسية، والمسوغات المنطقية التي استند عليها، وبعد أن فاجأنا كورونا بهمومه غير المتوقعة أصبح علينا ألا تفارق حياتنا الشخصية والعامة البجعة السوداء، فمن الممكن أن يكون الفايروس ظهر ليصدمنا ويغيّر أنماط تفكيرنا ويفرض طقوسه في كل كبيرة وصغيرة.
تعرف الدول المتقدمة والنامية علم المستقبليات، ويجيد كثيرون التعامل مع نواميسه المتباينة، وهو مبني على حقائق وقضايا ومبتكرات، وخلافه، وما ينتظرها بعد سنوات معيّنة، طالت أم قصرت، وتغلب عليه حسابات تخرج غالبا من رحم الواقع وتطوراته المنتظرة، مثل الهبوط على سطح القمر وقياس فكرة الحياة البشرية هناك، ووجود كائنات أخرى، وحروب الكواكب والنجوم، والنماذج المقبلة من التكنولوجيا الرقمية، والوظائف المتعددة للإنسان الآلي.
بدأ العقل البشري يستوعب كل ما سبق ويدرس أجياله المتطورة والحدود التي يمكن أن يصل إليها، وهو ما يفرض أن يصاحبه توسيع في نطاق توظيف البجعة السوداء في القضايا السياسية، ويبدو أنها ستحتلّ أولوية، فأزمات أخرى من نوعية كورونا غير مستبعدة، قياسا على النموذج الحالي وما يحمله من مكوّنات جنينية لأخطار بعيدة باتت أقرب مما نتصور.
لذلك من الضروري قطع مسافات كبيرة لمعرفة شكل الدولة ودورها الحقيقي، والقوى المؤثرة في النظام العالمي، ومعايير القوة الناعمة وحدود الخشونة، فنحن أمام عالم متلاطم ومختلف يتطلب أن تكون توازناته منبعثة من البجعة السوداء، أو التخيلات السياسية البعيدة.
تأتي أهمية التوقف عند هذه المحطة من عدم القدرة على تخيّل الشكل الذي سوف يستقر عليه العالم السنوات المقبلة، وتحديد القوى العظمى المهيمنة فيه، وغموض مكانة الولايات المتحدة، والشكوك التي تصاحب هضم تحوّل الصين إلى بديل لها، ومعرفة عناصر وأدوات التفوّق، هل هي العلم والأسلحة والتقدم الاقتصادي والتكنولوجي، وما هو ترتيب الأولويات، على أي أساس يتم شنّ الحروب والصراعات والقبول بالسلام والتسويات؟
تطول قائمة الأسئلة الحرجة وتطول معها الإجابات الملتبسة، بالتالي من المفيد تعميم البجعة السوداء وتوسيع دورها في الأدبيات السياسية، فالصدمة القاتلة التي سببها كورونا أصابت دولا كثيرة بالهواجس، ولم يعد الخوف ملازما للإنسان فقط بسبب همومه وآليات حلها، بل لحق بالقوى المعنوية المسؤولة عنه، وانعكس على ماهية دورها، بما يتجاوز عملية الطعام والشراب والكهرباء والمواصلات وكل أنواع الرفاهية المعروفة وغير المعروفة.
رفع الوباء الكثير من الحجب والأغطية عن الحكومات، ووضع قادة وزعماء أمام مسؤوليات جديدة، تتطلب إمعان النظر في قراءة المستقبل والتحسب من خباياه الوعرة، وتحديد المهام، ورسم التهديدات غير المدرجة ووسائل مواجهتها، بعد أن حطم كورونا ثوابت العقل البشري.
لعل المشاهد التراجيدية التي تصاحب المؤتمرات الصحافية التي يعقدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب تبيّن الاهتزاز ولأي درجة انخفض نجم الطاووس وطأطأ رأسه بعد أن أرعب دولا في الشرق والغرب، وتصرف مع بعض القضايا بما لا يتناسب مع الموروث.
تكفي المشاهد الذليلة التي رأيناها لقادة كبار لتقدم دليلا قاطعا على أن البجعة السوداء لا مفرّ منها، وقد تصبح ملاذا لكثير من زعماء الدول والحكومات لتجنّب الانكسارات القادمة، فتكرار النتائج التي حصلت من وراء كورونا ربما يحمل في جوفه فناء لأشياء يصعب تخيّلها، يستوجب توفير مرونة فائقة في التنبؤ بالكوارث السياسية قبل الطبيعية.