محمد أبوالفضل يكتب:
سيناء مشروع مصري يحقق عدة أهداف سياسية
أخذت شبه جزيرة سيناء تتجاوز حدود منطقة حرب سابقة مع إسرائيل، أو حالية مع التنظيمات الإرهابية، وتتقدم مؤخرا كمشروع قومي يحقق جملة من الأهداف السياسية. وتملأ فراغا مرفوضا رسميا وشعبيا، وتعيد للأذهان أفكارا افتقدتها مصر لتتحول المنطقة المنسية إلى جبل من الحيوية الاقتصادية والعافية الأمنية، وتدشينها كأهم تحول للقيادة السياسية، مع حلول الذكرى الثامنة والثلاثين لتحريرها السبت الماضي.
اعتادت مصر أن تعوّل على مشروع قومي أو أكثر، يدشنه رئيس الجمهورية ويعزز به شرعيته، ويلتف حوله المواطنون ويجدون فيه ما يوحدهم سياسيا، ويقلل من حدة الخلافات البينية. تأتي أهميته دوما في لحظات الفراغ، أو تلك التي ينقسم فيها الناس. وكلما عزف المشروع على وتر يدغدغ المشاعر الوطنية ارتفعت جاذبيته الشعبية.
اكتسبت مصر مناعة كبيرة في عهد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر في حقبتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، لأنه امتلك مشروعات، سياسية تقوم على الاستقلال، واقتصادية تعتمد على مفاهيم الاشتراكية في توزيع الثروات، واجتماعية تنطلق من العدالة والمساواة ومكافحة الفقر، والاهتمام بجودة الصحة والتعليم للجميع.
حققت مصر في حينه درجة عالية من التلاحم، مع أن إنجازات التوجهات التي تبناها الرجل لم تكن في حصيلتها النهائية جيدة، بل حروب وهزائم وخسائر وانغلاق وتضييق على الحريات، ومع كل ذلك لا يزال عبدالناصر يحتل حيزا في وجدان قطاع كبير من المصريين، لأنه حقق معادلة مفقودة لديهم أشعرتهم بعزتهم وكرامتهم.
أخفق من جاءوا بعده، بنسب مختلفة، في تبني الصيغة التي تضمن لهم شعبية دائمة. وعندما جربوا وصفات لمشروعات سحرية في نظرهم لم يكن الحظ حليفهم. وظلت البلاد تتقلب يمينا ويسارا، وصعودا وهبوطا، وكادت تختفي فكرة الخطط القومية العملاقة، بل فقدت مصداقيتها بعد أن أخذت أبعادا مفتعلة، هدفها تعويم الرئيس شعبيا.
عندما تولى الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي الحكم منذ حوالي ستة أعوام، استمد شرعيته السياسية من دوره الحاسم في دعم الانتفاضة الشعبية ضد الإخوان. بقيت هذه الذخيرة حية حتى تراجع إرهاب الجماعة وحلفائها المتطرفين. وتبنى السيسي مشروعات قومية اقتصادية والشروع في بناء عاصمة إدارية لم تؤد الغرض منها، وبدلا من أن تصبح محل توافق تحولت إلى خلاف وانقسام حول جدواها.
يؤمن السيسي بأن المصريين يحتاجون على الدوام إلى ما يحفزهم ويجعلهم يلتفون حوله، لأن الفراغ يدفعهم إلى صب غضبهم على أجهزة الحكم، وإغراقها في حزمة مطالب ومناوشات ترهقها سياسيا، ومن الضروري شغلهم والجري بخطوات واسعة في مجالات متعددة.
عندما قرر توسعة قناة السويس بعد وصوله إلى السلطة، لم يكن الغرض زيادة العائد المادي للتفريعة الجديدة، لكن كمحك أو اختبار لمدى تلبية المصريين لدعوته إلى الاكتتاب. نجحت الدعوة بامتياز، ففي غضون سبعة أيام وضع المصريون مليارات من الجنيهات المطلوبة للمشروع.
أُنجز المشروع، وخفت صوت الإرهاب، ولم تقنع العاصمة الإدارية الكثيرين، وحتى الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي تسير بوتيرة ناجحة يتعامل معها الناس على أنها واجب وفرض عين، أو بمعنى أدق عادية ولا ترقى إلى فكرة المشروع العام.
بدأت جماعة الإخوان تستغل الفراغ القومي، وأخذ النظام الحاكم يشعر بالحيرة، فتطوير البنية العسكرية للجيش بأحدث المعدات لم يكن كافيا، لأن كثيرين اعتبروه تكديسا لمعارك مجهولة، مع أن الرسائل الحربية لجس النبض كانت حصيلتها واضحة حيال تركيا في شرق المتوسط وليبيا، ومع إثيوبيا بسبب أزمة سد النهضة.
تسبب تشديد القاهرة على عدم استعدادها لخوض حروب خارجية في إجهاض المشروع العسكري، كما أفضى التردد في التمدد الإقليمي إلى النتيجة ذاتها. وبدا النظام الحاكم خلال العامين الأخيرين يشعر بخطورة فقدان المشروع الجامع الذي يشحذ همم المصريين ويستقطب قلوبهم. فلا هو قادر على إتمام الانفتاح السياسي خوفا من تداعياته السلبية وعدم تحمل مشاكساته، ولم يفلح في إقناع الناس بكل ما يقدمه من صيغ وطنية للنهضة.
إذا استمر الحال على هذا المنوال قد يواجه مآزق متباينة، تجبره على التجاوب قسريا مع تطلعات الناس بشأن الإصلاحات السياسية، وهي واحدة من المحرمات أو التحفظات التي لا يرغب النظام في كسرها حاليا، ولديه قناعة بأنها خطر على البلاد في هذه الأجواء المتلاطمة، وسلاح يصب في صالح الإخوان كجماعة متشددة ومنظمة.
وجدت القاهرة ضالتها في مشروع تنمية شبه جزيرة سيناء، الذي بدأ منذ سنوات ولم يحتل دائرة الضوء في أولويات الإدارة كقاعدة يلتف حولها المصريون. لكن الأيام الماضية تحركت الآلة الإعلامية لتصويره على أنه المشروع الموعود، يضرب مجموعة من العصافير بحجر واحد.
سيناء هي ساحة المعركة الرئيسية مع الجماعات الإرهابية وفلولها في الداخل والخارج. ومنطقة حروب للصدام على الدوام مع إسرائيل، والمعارك الحربية أفضل مشروع للاستثمار القومي، ولو لم يجدها البعض لاخترعوها لتوحيد شعوبهم. وهناك تسريبات إسرائيلية وأميركية متعددة تتحدث عن اقتطاع جزء من سيناء كحل نهائي للقضية الفلسطينية.
يمثل هذا الإقليم نقطة ضعف في الخاصرة المصرية، لأنه لم يجد اهتماما تنمويا كبيرا، ويشكو سكانه من الإهمال والتهميش، ما جعله محل أطماع من قوى مختلفة لتحجيم الإرادة المصرية، والتي استغلت الحرب على الإرهاب في تجاوز اتفاقية السلام الموقعة مع إسرائيل وإدخال معدات عسكرية ثقيلة ممنوعة بموجب الاتفاقية وملحقاتها السرية.
خرجت الكثير من الخطوات الإيجابية من رحم شبح التقسيم الذي يخيّم على المنطقة العربية، وسد الفجوات التي يمكن استغلالها، فالإهمال الطويل الذي عانت منه سيناء أغرى جهات كثيرة برسم وتداول سيناريوهات غامضة لها، ربما تتحول إلى واقع إذا لم تتمكن مصر من وقف الرخاوة التي تعيشها وإنهاء عزلتها.
توافرت عوامل كثيرة عززت وضع سيناء في مقدمة المشروعات ذات المكونات المتشابكة، التي يمكن أن تصبح محل إجماع من قبل المصريين، من حيث الجغرافيا السياسية والأمنية، وبالطبع التنموية لأن عملية تعميرها تتجاوز الحجر وتصل إلى البشر، فهناك مخطط لنقل نحو عشرة ملايين مواطن من الدلتا لتعمير سيناء.
فجرت سلسلة مقالات كتبها رجل الأعمال صلاح دياب، مالك جريدة “المصري اليوم” مؤخرا بتوقيع “نيوتن” وطالبت باستحداث وظيفة حاكم مستقل لسيناء، عاصفة من الانتقادات التي تعرض لها الرجل بحجة أنه يطالب باستقلال هذا الإقليم عن المركز.
سواء كان نيوتن كتب مقالاته بتدبير وضمن خطة تهيئة لتحويل سيناء إلى مشروع قومي، أو جاء بالصدفة، ففي الحالتين تصدرت هذه المنطقة اهتمامات فئة كبيرة من المصريين بعد أخذ ورد طويلين. وجاءت تعليقات الرئيس السيسي قبل أيام أثناء افتتاح مشروعات في سيناء مثمنة لأهميتها ومستقبلها الواعد، وتؤكد فكرة تحويلها إلى منظومة لمشروع قومي مفتقد.
تزامنت هذه التطورات مع بث قنوات فضائية مصرية لمسلسل “الاختيار” الذي يحكي قصة تضحيات ضابط لأجل الحفاظ على سيناء ومكافحة الإرهاب فيها بكل قوة، وقدرة الجيش على بتر ساق من سولت لهم أنفسهم تحويلها إلى بؤرة أو مركز دائم للتوتر، وتدعيم فكرة الملاحم والبطولات الوطنية المجهولة في هذه المنطقة، بما يرفع مستوى تعظيمها في العقل المصري.