سعد القرش يكتب:

كورونا.. كابوس مثالي لبناء دولة دينها القانون

الإجراءات الوقائية لمنع انتشار كورونا أثرت على كل الفعاليات، وتوصلت إلى أن تختصر زمن مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية. ولم أتخيل أن فايروسا غامضا يمكن أن يدخل العالم في كابوس غير مسبوق، ويكاد يُحكم الأبواب، ويمنع عنه المفتاح إلا بسلطان العلم.

لم يكن لأشد المتشائمين أن يتوقع هذا الانقلاب الكوني وأن تقفز كلمة “كورونا”، إلى الألسنة بكل اللغات، فتطارد المتعلم والأمي والكبير والطفل السعيد بإغلاق المدرسة. وبالبحث في غوغل باللغة العربية يتكرر اسم “الله” 884 مليون مرة، و”كورونا” 412 مليون مرة.

طوفان أجبر سكان الكوكب على الاعتصام ببيوتهم، وتفاوتت ساعات حظر التجول من مكان إلى آخر. وانغلق العالم على نفسه، لا طائرة في السماء إلا ما تحمل مواد إغاثة، وأغلقت الحدود والمطارات والمدارس والجامعات والمتاحف والمسارح وقاعات السينما والأفراح والعزاء، وألغيت معارض الكتب والمهرجانات والمؤتمرات، وتوقفت المباريات والأحداث الرياضية في العالم، وتأجلت أولمبياد طوكيو من يوليو 2020 إلى أغسطس 2021، وأهدرت 12 مليار دولار استثمرتها اليابان في الاستعداد لاستضافة حدث رياضي ضخم لم يشهد مثل هذا التأجيل منذ بدايته عام 1896.

لكنّ لكورونا وجها آخر يختفي خلف شراسته، ولا تخلو كارثة تحمل ألف مظهر للموت من وجه واحد للتفاؤل. تأتي فرص البناء هدايا في حالات الأمل واليأس، وفي كلتا اللحظتين فورة نفسية تشحن النفوس للاستجابة إلى التغيير والإسهام فيه.. في الأولى وتمثلها ثورة 25 يناير 2011 تلهفت الأرواح إلى ملامسة السماء، والرغبة الحقيقية في بناء دولة دينها القانون، ولكن سعار الإخوان المسلمين إلى الاستحواذ على السلطة والانفراد بالحكم أنهى التجربة بالفشل، وأضاع على مصر فرصة نادرة، وأعادها إلى استبداد قامت الثورة للقضاء عليه. وفي الثانية يأسٌ من قدرة الوسائل والآليات القائمة على تحدّي كارثة الموت، وفي مواجهة الموت لا يليق بالإنسان أن يكون جبانا ما دامت النهاية حتمية، فليجرب بديلا آخر إذا صحّ أنجاه، وإذا فشل فلن يخسر أكثر من خسارة متوقعة سلفا.

حاول أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر محمود حمدي زقزوق، وهو وزير للأوقاف قبل ثورة 25 يناير 2011، إنهاء فوضى نشاز أصوات الكثير من المؤذنين، وتبنى مشروع الأذان الموحّد، بإذاعة الأذان بصوت مشهود له بالجمال، من أحد المساجد ونقله في الوقت نفسه إلى المساجد الأخرى عبر شبكة إلكترونية. ولم تنجح الفكرة للتواطؤ بين الاستبداد والتوجّه السلفي المدعوم بالنفاق الشعبي. ومن أعلى سلطة في مصر تقرر إغلاق الكنائس والمساجد في منتصف مارس 2020، ولم يمسّ الأديان سوء لتعليق صلوات الجماعة والأحد والجمعة. وحفظ النفوس من مقاصد الأديان.

إغلاق المساجد قرار أكبر من أن يتحمل مسؤوليته الفقه على المذاهب الأربعة، ولم يصدر بمبادرة واعية من وزير الأوقاف الذي أصرّ على استمرار إقامة صلاة الجمعة رغم خطورة التجمعات. هنا تكون المقاصد الصحية لحماية الأرواح مسؤولية سياسية، ولا تختلف عن الاشتراطات الفنية لبناء مصنع يحتاج إلى خبراء في هندسة التربة والبناء، ومتخصصين في الهندسة الميكانيكية والأمان الصناعي، ولا علاقة لذلك بالأخلاق التي يتذرع بها مشعوذون أفسح لهم الإعلام التغييبي مجالا لادّعاء تفسير الأحلام والعلاج بالقرآن. وجاء كورونا ليزيحهم مؤقتا، ويثبت عجزهم عن وقاية المواطن، ولا توجد تجربة لنجاح أحدهم في علاج مريض، ولم يجرؤ أي مدّع – يحتجّ بأن لديه حصانة قرآنية – على زيارة مصاب بكورونا؛ لعلاجه بما يسمى الطب النبوي.

هذه الشعوذة اقترنت بها شعبوية أدت إلى جرائم لم يحسمها القانون. فلم تتوقف وقائع الاعتداء على مسيحيين مسالمين بتهمة الصلاة في بيت أحدهم لعدم وجود كنيسة. والتهمة الجاهزة هي صلاتهم في مكان غير مصرّح فيه بالصلاة وهم لم يؤذوا أحدا، ولم يصطفّوا في الشارع ويشهروا الميكروفونات كما هو الشأن في صلاة الجمعة.

غابت الدولة، وحضرت مجالس عرفية انتهت بإدانة الضحايا، وصدور أحكام أهلية تلزمهم بمغادرة المكان. تهجير قسري أغرى مهووسين آخرين يدّعون الغيرة على الإسلام بتكرار الاعتداء على مسيحيين آخرين. لا يجدي في هذه الوقائع إقناع المتعصبين بحُسن الجوار، وإنما تنفيذ قانون لا يعرف المسلم من المسيحي، وهنا تحضر المقولة الخالدة لعثمان بن عفان “الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.

لو حضر القانون لما شاهدنا سلوكا غير آدمي للعشرات من أهالي قرية “شبرا البهو” بمحافظة الدقهلية، يرفضون دفن طبيبة توفيت في المستشفى، بعد إصابتها بكورونا. يتحمل الإعلام الحكومي والخاص، بحكم كونه سلطويا تعبويا شعبويا غير مهني، النصيب الأكبر من هذا السلوك؛ لإشاعته الرعب من الفايروس، والجهل بتوعية المواطنين بوسائل الوقاية، وكيفية التعامل مع المصابين وحرمة الموتى.

 لو حضرت الدولة منذ البداية وفرضت سلطتها، كما فرضتها في إغلاق دور العبادة، لما جرؤ أحد على الاعتراض الذي انتهى بالقبض على 23 شخصا حاولوا منع دفن المتوفاة.

لا يأبه المعترضون السفهاء لحديث نبوي يوصي بالإسراع بالميت إلى قبره، ولا يبالون بالقول المأثور “إكرام الميت دفنه”، ويتجاهلون تشديد بيانيْ مفتي الجمهورية والأزهر على “حرمة إيذاء المُصاب بفايروس كورونا، أو الإساءة إليه ولو بنظرة، أو امتهان من تُوفي جراءه”، وأن الإصابة “ليست ذنبا أو خطيئة ينبغي على المُصاب بها إخفاؤها عن الناس كي لا يُعيّر”.

ما يتم تأجيله بحجة عدم مواتاة الظروف لن يجد ظرفا مناسبا لإتمامه، ويظل مؤجلا إلى ثورة تالية. جرى التخلّي عن الحلم بالدولة المدنية مرتين بعد ثورة 25 يناير، ويأتي كورونا الآن فارضا صرامة لا تحتمل التهاون في إرساء قواعد دولة بخطاب سياسي جديد، ونظام تعليم يستبعد الحفظ والاسترجاع في ظل إغلاق المدارس، وإيمان حقيقي بالبحث العلمي، وإخضاع فئات تستثني نفسها من القانون في الشارع (الجيش، والشرطة، والنيابة) فيختل ميزان العدل ويُستبدل به كفرٌ بقيمة التكافؤ، والمساواة بين الجميع في حقوق المواطنة.