محمد أبوالفضل يكتب:
هل يفك السودان ألغاز سد النهضة؟
نتفق أو نختلف على أن هناك أخطاء وقعت في إدارة ملف سد النهضة في الماضي كانت أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى الموقف الصعب الحالي. لكن لا أحد يختلف على أن الإدارتين المصرية والسودانية للملف تلتزم بقواعد القانون الدولي، وتعلي من الروابط التاريخية مع شعوب القارة الأفريقية، وتقوم بخطوات تتواءم مع طبيعة المرحلة، وتتخذ من الإجراءات ما يكفل حماية الأمن القومي لكل طرف، والحفاظ على الحصة اللازمة من مياه نهر النيل.
تواجه مصر التشدد الإثيوبي بهدوء، ورفضت الانجراف وراء ما تبثه بعض وسائل الإعلام في أديس أبابا من مهاترات ومبالغات ولي لأعناق الحقيقة، وبادلت اللامنطق الذي تتبناه بمنطق يراعي المصالح العليا والأعراف والتقاليد.
من يتابع ما يتناقله الإعلام الإثيوبي يشعر أنه يخاطب دولة أخرى غير مصر، وشعبا غير المصريين، حتى النخبة التي يتهمها بأنها تتطاول على حكومته لم يقدم دليلا قويا على وجود تجاوز منها. كل ما يحدث أن غالبية الخبراء والمهتمين في مصر يفندون المغالطات والرد عليها بالأسانيد والحجج والوثائق، بعيدا عن العواطف ودغدغة المشاعر.
لم تنجرف مصر أو نخبتها الوطنية وراء حرب دعاية من هنا أو هناك، ولم تنسق خلف التضخيم الذي يبثه الإعلام المضاد. وحرصتا، الدولة والنخبة، على التسلح بالرصانة. وفي أوج الخلافات الحادة ومحاولات قلب الطاولة في اجتماعات واشنطن بحضور الولايات المتحدة والبنك الدولي كانت التصورات المصرية عاقلة لأبعد مدى وأبدت حسن نوايا واضحة.
أعلت من أهمية الحوار والتفاوض دون اعتداد بالتصريحات الساخنة التي يطلقها البعض والتصميم على العبور إلى مرحلة ملء السد قبل الاتفاق على ضوابطه الفنية، لأنه أصبح قضية خاضعة للمزايدات الداخلية، في تجاهل لقيم المجتمع الدولي وقوانينه.
مهما بلغ تجاوز هذه القوانين يظل العالم محكوما بها، وحتى التصرفات البعيدة عنها لا تهملها وتتمسك بها في الظاهر، وتلجأ إلى تكييف الخروقات مع القوانين وهي تعلم أنها تتخطاها فعلا.
تم عبور الكثير من المطبات التي وضعت في طريق المفاوضات، وخاضتها مصر أولا مع كل من إثيوبيا والسودان. وتجاوزت أيضا المشكلات التي نشبت بعد إخفاق جولات واشنطن، وحاولت ثني أديس أبابا عن الذهاب بعيدا في طموحاتها، لكن الأخيرة لم تستوعب الإشارات التي وصلتها، وأصرت على عدم العودة وكسب المزيد من الوقت لجعل مشروع السد أمرا واقعا، ثم تشرع في التفاوض، وهو ما رفضته مصر والسودان، لأنهما لن يعدما الوسائل الحاسمة التي تحافظ على مصالح كل منها.
شدد الرئيس عبدالفتاح السيسي على هذه المسألة أكثر من مرة، وحذر من مغبة تجاوز أي جهة للخطوط الحمراء التي رسمتها مصر لأمنها القومي القريب والبعيد. فالدولة التي خاضت معارك سياسية مع جهات عدة بعد ثورة 30 يونيو وانتصرت فيها لن تنكسر في معركة سد النهضة. والدولة التي هزمت جيوشا من الإرهابيين وخاضت حربا شرسة ضدهم لن تصمت على استلاب حقوقها في مياه النيل.
تتعامل مصر مع الأزمة وفقا لسياسة الخطوط المتوازية، حيث ركزت على الشق الفني في البداية ولم يسفر عن نتيجة ملموسة، بعد أن خاضت جولات ممتدة، وطرقت أبواب الكثير من بيوت الخبرة العالمية، وسعت إثيوبيا للقفز على كل الحقائق الفنية التي تثبت أن السد يحمل أضرارا باهظة لدولتي المصب، مصر والسودان.
وتصورت أن الخرطوم ستظل مرتبكة ولن تكتشف الخدعة التي ورثتها عن نظام الرئيس السابق عمر البشير، بشأن تعظيم الفوائد التي يحملها السد، وتحويلها من سلبية إلى إيجابية.
تصاعدت حدة الانتقادات في السودان، وجرى التحذير من خطورة الانجرار وراء التخمينات الإيجابية. وهو ما انعكس في شكل مراجعة حول جملة المواقف السابقة، قادت حصيلتها إلى تأكيد أكثر من مسؤول صرامة موقف السودان، والإشارة إلى أنه طرف رئيسي في المعادلة.
بدأ رئيس الحكومة السودانية الانتقالية عبدالله حمدوك وساطته بالحوار عبر الفيديو كونفرنس مع كل من القاهرة وأديس أبابا الأسبوع الماضي لاستئناف المفاوضات من النقطة التي وقفت عندها، ما يعزز التغير الحاصل في موقف الخرطوم ويثبت أنها طرف أصيل وليس تابعا لأحد، وحريصة على عدم خروج الملف عن السيطرة، والعمل على فك ألغازه.
يتكاتف مع الشق الفني آخر سياسي لا يقل أهمية، لم تتوقف مصر عن استخدامه من خلال دخول طرف رابع أو طلب وساطة جادة وعادلة، ظهرت تجلياتها في مفاوضات واشنطن، وحرص الرئيس دونالد ترامب على التدخل بنفسه، ولقاء وفود الدول الثلاث أكثر من مرة، مع رغبة تشي بضرورة نجاح المحادثات، لكنها تجمدت.
ناشدت القاهرة دولا عدة بالتدخل وعدم التهاون مع تسويف أديس أبابا، وتوافرت أدلة تؤكد أن هناك أطرافا عديدة شاهدة على التقاعس، وما يؤدي إليه من توتر في المنطقة.
وخطت خطوة أكبر نحو المجتمع الدولي عندما وجه وزير الخارجية سامح شكرى، خطابا لرئاسة مجلس الأمن الدولي في الأول من مايو، وجرى تعميمه على أعضاء المجلس، يتعلق بتطورات قضية سد النهضة ومراحل المفاوضات وما اتخذ من مواقف مرنة ومُتسقة مع قواعد القانون الدولي، وأهمية الانخراط الإيجابي من جانب إثيوبيا بُغية تسوية هذا الملف بشكل متوازن للأطراف المعنية، بما يضمن استدامة الأمن والاستقرار في المنطقة.
جاء الرد الإثيوبي خاليا من الإجابة عن الأسئلة التي وجهتها مصر، ويدور في حلقة مفرغة من المعلومات وغير الدقيقة لتحييد القوى الدولية والعودة إلى صيغة أفريقية مطاطة.
حوت الرسائل المصرية مضامين سلمية متباينة، ما اعتبره خبراء مؤشرا قاطعا على تبني كل الطرق التي تفضي للتسوية، وجرى احترام القواعد التي يتعامل بها المجتمع الدولي، في حين تظل إثيوبيا تردد مفردات غامضة، وتتبنى خطابا مخاتلا حول المظلومية المائية والتنموية.
بينما القضية وضعت في جعبة مجلس الأمن، المكلف بحماية الأمن والسلم الدوليين وردع المتسببين في خرقهما، لأن صمته يمنح مشروعية للمتضررين باللجوء إلى خيارات أخرى، إذا أخفق في فرض سلطته، أم أن تدخل الخرطوم يحل الألغاز وينزع الفتيل مبكرا.