سعد القرش يكتب:

الإرهاب والاستبداد.. تفكيك الأول يقضي على الثاني

حتى نهاية مارس 2020 كان الفزع هو وصول عدد مصابي فايروس كورونا في مصر إلى 1000. وبمضيّ الوقت تحالفت السياسات المتراخية مع اللامبالاة الشعبية، وسجلت إصابات ووفيات في يوم واحد (الأحد 31 مايو) 1536 مصابا و46 متوفى. فهل بدأت مرحلة ألفة الوباء، كما نتعايش مع الإرهاب؟

في حياة بلا حياة سنكتفي بإحصاء أعداد ضحايا الوباءين، ومتابعة الأمر بمصمصة شفاه عابرة؛ لأن هؤلاء وهؤلاء مجرد أرقام، كما أن ضحايا الاستبداد أيضا مجرد أرقام، وإن لم يسلم مواطن، مهما يكن حذرا ومسالما، من الشعور بأن يكون ضحية أي من هذا الثلاثي المرعب، وبوقوع الكارثة لن يكون رقما، بل إنسانا له اسم وعائلة وأحبة.

تفكيك الاستبداد يبدأ بالوعي، وبهذا الوعي ينتهي الإرهاب. وفي علم الجريمة تطرح أسئلة أولها: من المستفيد؟ ولا يخفى على عاقل أن الإرهاب يغذي الاستبداد، ويردّ إليه الروح بمنحه قبلات للحياة. والغافل يتخيل انتهاء الإرهاب بإعلان الحرب على الإرهابيين في حين تترك أفكاره المؤسِّسة، في مناهج تربوية وتعاليم.

لم يسجل التاريخ نجاحا نهائيا للقوة المتدرجة، من السجن إلى القتل، في القضاء على أفكار ودعوات وادعاء لنبوات، بل إن الاستبداد يمدّ هؤلاء بأوهام “الشهادة”، فيتوارثون مظلوميات. أما تفكيك الأفكار فهو كفيل بثقب الكيان المصمت، لتفريغه من سراب يبلغ درجة العقيدة، ولم تتوقف ثماره المرة التي بلغت حد اغتيال رئيس مصر عام 1981.

في كتابه “شعب السامر” تناول الكاتب الليبي طارق الحاسي أقلية عرقية تعيش في السويد والنرويج وفنلندا وروسيا، ويرون أنفسهم سكان السويد الأصليين. الكتاب أصدرته دار الثقافة الجديدة بالقاهرة في مايو 2020، وهو طريف يناسب الحظر الكوروني المستبد، وفضلا عن الطرافة يمكن التوقف أمام إحدى دلالاته، ففي عام 1520 جرى “حمام الدم في ستوكهولم” بإعدام المتهمين بالكفر، وفي عام 1523 أمر الملك الجديد جوستاف فاسا بتحويل السويد من الكاثوليكية إلى البروتستانتية، وفي القرنين التاليين أعدم المئات لاتهامهم بالسحر والزندقة وتبني الكاثوليكية، ونجا السامر لأنهم وثنيون.

ثم دمر “مستبد السامر” الملك كارل الحادي عشر أماكنهم المقدسة، وقدمهم إلى محاكمة انتهت بحرق “أدواتهم الشيطانية”، “لكن هذا لم يمنع المعتقد القديم لدى السامر من الاستمرار والانتشار”.

الإجراء الأكثر ذكاء مارسه “حواري السامر” القس النرويجي توماس فون ويستين، بعزمه على تقويض الديانة السامرية من داخلها، وحصل “على مرسوم يلغي العقوبة على معتنقي الديانة السامرية”، وتعلم ديانتهم وناقشهم، حتى نجح في إدخال البعض إلى المسيحية، وانتشرت طريقته في السويد، “وصار القساوسة يناقشون المسيحية مع السامر بدل المكوث في الكنائس”، حتى اعتنق السامر الدين المسيحي، وانقرضت ديانة السامر.

ولأن السامر يعيشون في دولة قوية ومستقرة وعادلة، فلا يسعون إلى المطالبة بدولة مستقلة، ولو كانوا في دول “تحكمها أنظمة مستبدة، فلربما تكتل السامر وحاولوا تكوين كيان يحميهم”.

وفي مصر يتأسس الاغتيال الديني على أفكار، فينطلق الرصاص من الكتب القديمة، ومن أفواه المرشدين الروحيين ليحصد أرواح الأبرياء، ولا يكون الندم أكثر من بيان لإبراء الذمة يقول فيه حسن البنا إن هؤلاء “ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين”، وكان يقصد أعضاء التنظيم السري المسلح الذين اغتالوا رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي في 28 ديسمبر 1948، بعد 20 يوما من قراره إغلاق المقر العام للجماعة.

ومنذ تأسيس جماعة الإخوان عام 1928 وهي في معية النظام، يدعم كلاهما الآخر، وفي سنوات الفراق تطيش السهام. ولم تحدث عملية تقويض للأفكار الطائفية مثل تلك التي نجح فيها شخص واحد هو القس النرويجي توماس فون ويستين.

هل يجدي الإصلاح الذاتي؟ يثبت التاريخ أن رجال المؤسسات الراسخة، وهم رجال الدين والقضاة والعسكريون، يعادون الثورات، ويقاومون الإصلاح. والاستثناءات تظل استثناءات تؤكد هذه القاعدة. كان الملك فؤاد يعدّ لمؤتمر الخلافة عام 1925، فأصدر الشيخ علي عبدالرازق كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، وجرّده الأزهر من شهادة العالمية، وأخرجه من “زمرة العلماء”. وفي عام 1945 قضى الأزهر بأن الكتاب لا يتعارض مع الدين، وأعيد إليه الاعتبار، وعين وزيرا للأوقاف عام 1948. رافقه الجرح القديم حتى وفاته عام 1966 إذ قال لمحمود أمين العالم “اطبعوا الكتاب كما تشاؤون، لكن دون استئذاني. اطبعوه على مسؤوليتكم، ولا تطلبوا مني إذنا بغير ضمان أكيد أطمئن إليه”.

تجربة علي عبدالرازق، من المحاكمة إلى الخوف المزمن، أثبتت صعوبة الخروج من الاصطفاف، فلا يتسع صدر المؤسسة الدينية الرسمية لمجتهد، وأما المؤسسة السياسية فتغازل المتطرفين بالصمت، وإذا حاولوا اغتراف نصيب من السلطة طاردتهم واعتقلتهم، ولو بذلت جهدا في تقويض أفكارهم، لما نشأت “جماعة المسلمين” المشهورة إعلاميا بجماعة “التكفير والهجرة”، وقد خرج أعضاؤها من أقبية المعتقلات عاجزين عن الرؤية، وقتلوا وزير الأوقاف الشيخ محمد حسين الذهبي عام 1977.

وحظي القتلة بدفاع مرشديْن لتنظيم الإخوان، هما عمر التلمساني ومصطفى مشهور. فهل كان للدكتور أحمد صبحي منصور أن يأمن على حياته بعد اغتيال فرج فودة عام 1992، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ عام 1994؟

في 22 رمضان، 15 مايو 2020، نشرت صحيفة الأهرام حوارا مع النائبة البرلمانية الدكتورة آمنة نصير أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، وقد ربطت صعود “التدين الشكلي” منذ سبعينات القرن العشرين وانتشار التشدد بزيادة معدلات الإلحاد، على الرغم من كثرة الجهات والأشخاص الذين يتحدثون في الدين.

المصارحة المهمة أنها لا تنتظر من رجال الأزهر تجديد الفكر الديني، فهؤلاء يشكلون العقول لكي تقول “حاضر ونعم”، دون فهم أو نقد أو تفكير، “لذلك كثر التطرف وزاد الإلحاد… نشأوا على أن يتخندقوا داخل النص، وليست لديهم الجرأة ولا الاستعداد” لقتل القديم، وفق مقولة الشيخ أمين الخولي. وربما تكون هذه الشهادة فصل الخطاب.