ماجد السامرائي يكتب:
خطوة جريئة تخترق الوهم العربي
الاهتمام العاطفي الذي حظيت به القضية الفلسطينية منذ أن جرى الاعتراف الدولي بوجود إسرائيل، لم يتحقق لأي قضية أخرى في العالم، لتظل قضية فلسطين مهيمنة على سياسات الحكام العرب وشعوبهم المقهورة.
القضية الفلسطينية أنتجت حركات وأحزاب التيار القومي العربي التي حكمت خلال فترة حساسة من حياة العرب، في النصف الثاني من القرن الماضي، في بلدان اعتبرت بمثابة القلب للعرب (مصر عبدالناصر، وسوريا والعراق حزب البعث). رغم ذلك لم ينتج قرن الثورة العربية سوى النكبات والهزائم، ولم يتحقق خلاله انتصار واحد على إسرائيل.
كان التنافس عاليا على المنابر، بين من يريد رمي إسرائيل في البحر، مثلما ادّعى عبدالناصر، الذي أنهته وأسقطت مشروعه القومي نكسة الخامس من يونيو 1967، وبين من يهدد بمحو نصف إسرائيل بالسلاح الكيمياوي، مثلما فعلها صدام حسين في أبريل عام 1990، حين تورط في معركة خاسرة مع العالم والولايات المتحدة التي أسقطت نظامه عام 2003، وسلمت العراق لإيران في صفقة اتسمت بالمكر والخديعة.
لم تكن المزايدة على العرب في هذه القضية حبا بفلسطين وبعودة أهلها لأرضهم المسلوبة، وإنما لتمرير أخطر مشروع توسعي، واجتياح بلدان كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، إضافة إلى ما يشكله من خطر جدي على بلدان الخليج العربي، يفوق في خطورته المشروع الإسرائيلي الذي لا تتجاوز حدوده الجغرافية الأرض الفلسطينية، ولو كان نظام الخميني صادقا لسلّم الجزر الثلاث لأهلها الشرعيين في الإمارات العربية.
اللعبة الخطيرة مررت بإغراق نظام الخميني الخارطة العقائدية والسياسية العربية بشعارات تحرير فلسطين، ورمي إسرائيل في البحر لتعود مدينة القدس محررة تحت لواء ولاية الفقيه الإيراني، في خدعة لم يلتفت إليها المثقفون والسياسيون العرب تقول “إن العرب وأنظمتهم السياسية لا يصلحون للحياة إلا تابعين أذلاء”.
ولم تتمكن النخب العربية من التصدّي لهذا المشروع الخبيث بسبب وقوعها تحت ضغوط الخيبة والخذلان، وخوفا من ادعاء مزّيف مفاده أن كل من يقف ضد مشروع الخميني هو إما عميل لإسرائيل أو متخاذل وجبان.
بعد تولي الخميني السلطة في طهران، عام 1979، لعب نفس الخدعة على القيادة الفلسطينية التي كانت في أسوأ ظروفها، خلال وبعد الحرب الأهلية اللبنانية، فتم استقبال الراحل ياسر عرفات، وتم تحويل مقر السفارة الأميركية في طهران إلى مقر للبعثة الفلسطينية، ولم يكن ذلك سوى رياء وكذب.
وحين اجتاحت القوات الإيرانية الجنوب العراقي عام 1982، كان شعار النظام الإيراني “تحرير القدس يمرّ عبر كربلاء”، وكانت وصايا المعممين للمقاتلين بعد غسل أدمغتهم تقول: عند عبوركم هذه التلال على الحدود العراقية ستصلون إلى كربلاء ثم بعدها مباشرة إلى القدس.
استفاد نظام الخميني من هذا المناخ في تمرير اللعبة الكبرى في صفقات السلاح مع تل أبيب مباشرة، ومنها فضيحة “ووترغيت” وظهور وثائق مسرّبة عن تقديم نظام طهران معلومات لتل أبيب خاصة بمركز “تموز” النووي ببغداد الذي قصفته إسرائيل عام 1981.
خلال مرحلة ما سمي بالمد القومي العربي، كان نجاح ولادة أي حزب أو حركة بين الجمهور العربي، يتوقف على قدرته في رصف ديباجة النضال من أجل تحرير فلسطين في مقدمة وثائقه وبياناته، ولم يكن حينها للأحزاب الدينية وجود حقيقي، وبعضها الآخر كان في مرحلة الطفولة، وغابت فلسطين عن مشاريعهم، لأن هدف الإخوان المسلمين كان قيام الدولة الإسلامية العابرة للحدود والمتقاطعة مع التيارات القومية العروبية.
فشلت الأنظمة العربية منذ عام 1947، مرورا بنكبة 1948 ونكسة يونيو 1967، في تقديم حل سياسي للمسألة الفلسطينية يعطي لأهل الأرض حقهم في وطن. والخطوات التي تمت خلال ثلاثة عقود هي لاستعادة أراض مصرية وأردنية مقابل التطبيع مع إسرائيل، قبل حصول الاتفاق الإسرائيلي الفلسطيني في “أوسلو” ثم مؤتمر مدريد.
لقد قبل الفلسطينيون، ومن خلفهم كل العرب، بوجود الكيان الإسرائيلي على أساس حل الدولتين، وهذا ما وثقته مؤتمرات القمم العربية خلال العشرين سنة الأخيرة. وقرار قمة بيروت 2002 كان واضحا على أساس مبادرة السلام العربية التي قدمها الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، ووافق عليها ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية، وبذلك انتهى عصر الدعوات الحربية، إلا إذا كان هدف مروّجيها الابتزاز.
المشكلة السياسية إذن ليست في المفاضلة بين أسلوبي الحرب والسلام مع إسرائيل، وإنما في حضور العقل السياسي الناضج والصادق فلسطينيا وعربيا لاستعادة الحقوق الفلسطينية، بعد أن وصلت القيادة الإسرائيلية إلى قناعة بقدرتها عمليا على تنفيذ مشروع ضم مزيد من الأراضي، وتحويل مقر السلطة الفلسطينية في الضفة إلى هيكل يرمز إلى الوهم القاتل للمواطن الفلسطيني.
كان الجميع يستشعر أن هناك اختراقا للجمود السياسي لا بدّ أن يحصل، وهذا ما حققته القيادة الإماراتية في قرارها تطبيع العلاقات مع إسرائيل، مقابل وقف مشروع التصفية النهائية للقضية الفلسطينية، وإطلاق حوار فلسطيني - إسرائيلي ليس بمنّة من واشنطن وألاعيب اللوبي المتطرّف داخلها، وإنما بخطوة عربية شجاعة صادقة قدمتها الإمارات متحملة غبار رفسات المزايدين.
في مقاييس المصالح الوطنية السيادية لكل دولة حقها في اختيار سياساتها التي تحمي مصالحها، وعربيا لم تتجاوز الإمارات الإجماع العربي في قرار مبدأ الأرض مقابل السلام.
المفاجأة التي أيقظت شياطين المزايدات عند تجار القضية الفلسطينية هي شجاعة القيادة الإماراتية على حشر إسرائيل في زاوية القبول بتعطيل مشروع الضم لفتح طريق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، ولم تقل إنها ستتحدث باسم الفلسطينيين وبالنيابة عنهم، ما فعلته هو تحطيم أقفال الجمود وتعطيل بوابات النهاية التاريخية للقضية الفلسطينية.
القرار الإماراتي الشجاع لن يحقق مكاسب ذاتية لحكومة وشعب الإمارات الذي يعيش برخاء وأمان، أثار ويثير نزعات الحقد الأعمى لدى بعض الحكام العرب، الذين اختاروا طريق الخضوع لمصالح الآخرين ونهبوا خيرات شعوبهم وتركوها جائعة ضائعة.
القرار الإماراتي اختراق للوهم العربي الذي امتد على مدى قرن من الزمن، ووقفة جادة من أجل أن يعم السلام والتنمية في المنطقة وتوديع مرحلة الكذب والدجل على الشعوب. وهو فرصة للعقل السياسي العربي لكي يستجيب لمصالح الإنسان العربي والفلسطيني، في تقديم مشاريع وبرامج للتنمية والسلام بعقل استشرافي يتعاطى مع التحولات الكونية الجديدة، وهذا هو التحول الكبير الذي تتبناه القيادة الإماراتية بكل صدق وتواضع.
هناك متضررون من المشروع الإماراتي الجديد، بين الباحثين عن أحجام وهمية قائمة على تكريس الصراعات الدموية داخل بلدان العرب، اعتمادا على نزعات العرق والتطرّف الديني والمذهبي، حيث أصبح المواطن في بلده يحلم أن يكون له وطن، بعد أن انتزعت منه جميع حقوقه ومن بينها حق الحرية والعيش بكرامة، فالوطن مسروق حتى وإن احتوى الأرض والثروة. حتى أصبحت فلسطين هي الرديف والنموذج الحاضر في يوميات حياته، فالعراقيون مثلا يشبهون حالهم اليوم بما يعانيه الفلسطينيون من قوات الاحتلال.
الفلسطينيون بحاجة إلى استثمار المبادرة الإماراتية الجريئة للحصول على حقوقهم المشروعة وقيام دولتهم، والتخلي عن نزاعاتهم الداخلية وفضح وعزل القيادات الفلسطينية التي ربطت مصير فلسطين بنظام خامنئي تحت شعار الدين والمذهب.
لا بدّ للعرب أن يلتفتوا إلى المخاطر الجدّية للمشروع التوسعي الإيراني، فهناك على الجناح الشرقي من بلاد العرب يوجد مشروع إسرائيل التوسعي الحقيقي.