ماجد السامرائي يكتب:
ترامب الصديق المقبل لخامنئي
الاستنتاجات الصحافية حول زيارة مصطفى الكاظمي لواشنطن لم تتجاوز تفسيرات مكررة لعناوين العلاقة ما بين واشنطن وطهران على الأرض العراقية، وما يتوجب على الكاظمي من التزامات للطرفين الأميركي والإيراني. فمن جهة عبّر الكاظمي قبل وبعد زيارته لطهران عن عدم خروجه عن التزامات قيادة الأحزاب الموجهة للسلطة في العراق تجاه النظام الإيراني، وابتعاده عن التحرّش بملف نفوذها في العراق رغم التخريب المتصاعد لوكلاء النظام في استهداف مصالح الولايات المتحدة الأميركية. سبق أن سُربت أخبار عدة عما واجهه الكاظمي من محاسبة ولي الفقيه خامنئي لعدم جدّيته في إخراج الأميركان من العراق.
لم يخرج إلى العلن بعد لقاء الكاظمي والرئيس الأميركي دونالد ترامب، الشهر الماضي، ما يجيب على التساؤلات الملّحة، في هذا الظرف الدقيق الذي يمّر به العراق، من تدهور اقتصادي واستباحة الميليشيات المسلحة الموالية لطهران لأمن الناس وكرامتهم، ولم يتوقع لذلك اللقاء الخروج عن البروتوكول التقليدي للدبلوماسية الأميركية في الإشادة والترحيب وترك الأمور للقنوات الأميركية الأخرى للاشتغال على المناخ الإيجابي العام، الذي عبّر عنه ترامب خلال المقابلة رغم تلميحه إلى أهمية خلاص العراق من مخاطر النفوذ الإيراني. ولا يتوقع حصول صفقة ما سرّية بين الرجلين منتظرة في تنفيذ خطة طوارئ عراقية لإنهاء النفوذ الإيراني في العراق.
الأكثر أهمية في هذا الجانب، أن الرئيس ترامب غير جاد في مشروع مساعدة العراقيين على الخلاص من الآثار المدمّرة لنظام إيران في العراق والتي كان المسبّب الأول فيها السياسات الملعونة المدمّرة لسلفيه بوش وأوباما، فالأول هو “الجمهوري” الذي فتح أبواب العراق لنظام إيران وميليشياته عبر الاحتلال العسكري والثاني “الديمقراطي” حيث وفّر الفرص اللوجستية من خلال الانسحاب العسكري لتوطيد نفوذ نظام طهران وملء الفراغ السياسي والأمني في هذا البلد، وتعزيزه بقدرات المال بعد الاتفاق النووي.
بوش احتل العراق ودمرّه تحت أوهام لاهوتية بالقضاء على “ياجوج وماجوج” في أرض بابل. وأوباما الحاقد على كل ما هو عربي ومسلم في المنطقة انطلاقا من عقدته الشخصية “الإسلام” التي التصقت بتاريخه العائلي مبررا لنظام خميني وخليفته المغّلف بشعارات الإسلام، بأنه البديل في الشراكة الاستراتيجية في المنطقة وليسوا العرب.
العراقيون والإيرانيون على دراية بأن ترامب ليس رئيسا متميزا أو صادقا في محاربة نظام طهران وتغييره، وأن حملة العقوبات الأميركية ومواسم تجديدها ليست سوى استراتيجية “الضغط القصوى” التي تستهدف تليين الجموح الإيراني، الذي تجاوز الحدود في التخريب والعدوان المسلّح عبر أدواته الميليشياوية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتهديد أمن أصدقاء أميركا في الخليج من أجل إجباره على الجلوس على طاولة المفاوضات. فلا دونالد ترامب عدوا لهذا النظام ولا البديل جون بايدن كذلك.
ما عدا بعض التغريدات “الهوائية” العابرة على تويتر لترامب، جميع بياناته وتصريحاته، وهي كثيرة لا مجال لتعدادها، تؤكد رغبته في إجراء مفاوضات مباشرة جديدة، إلى جانب قنوات الاتصال السرية المفتوحة ما بين واشنطن وطهران. بينما رسائله الإيجابية تطغى على رسائله المعبّرة عما يسميه حكام طهران بـ”الغطرسة وقلة الفهم السياسي”.
شهد الثلث الأخير من عام 2019 رسائل سياسية أميركية إيرانية متبادلة إيجابية ومكثّفة رغم قعقعة صواريخ “كاتيوشا” لحزب الله العراقي على السفارة والمواقع العسكرية الأميركية في العراق، وأكثرها خطورة قتل جندي أميركي في معسكر قرب كركوك، مما اضطر ترامب إلى الردّ وتنفيذ قرار المخابرات الأميركية، المتخذ منذ فترة طويلة، بقتل المخطط الأول لتلك الهجمات، المسؤول الإيراني الأول عن التخطيط لإثارة الفوضى والقتل في العراق والمنطقة الجنرال قاسم سليماني، أوائل هذا العام.
حين شعر ترامب بأن مستشاره للأمن الوطني جون بولتون تجاوز الحدود المسموح بها في تصعيده الإعلامي ودعوته إلى تغيير نظام طهران، إضافة إلى مواقف أخرى في السياسة الخارجية، أقاله من منصبه موجها إليه نقدا لاذعا، بعد نشره لكتاب وصف بالفضائحي يتناول سياسة ترامب الخارجية في أفغانستان وأوكرانيا وروسيا والصين.
اعترف ترامب أخيرا بأنه سمح للسيناتور الجمهوري راند بول بالتفاوض مع إيران، وأبدى استعداده لتكليف وسطاء آخرين بالاتصال بالمسؤولين الإيرانيين، خصوصا بعد خطوتها الإيجابية بإفراجها عن ضابط البحرية الأميركية مايكل وايت، إلى درجة أن ترامب شكر إيران مرتين، وهذا ما فسرته الأوساط الأميركية والدولية بأنه “يُظهر أن التوصل إلى اتفاق مع طهران أمر ممكن” حيث دعا إيران إلى التفاوض معه الآن وألا تنتظر الانتخابات الرئاسية الأميركية لأنه سيفوز بها!
بل أعلن قبل أيام، أنه سيدخل المفاوضات المباشرة مع طهران بعد أسبوعين من فوزه بالانتخابات، ولا يعرف أحد كيف ينقلب العداء عالي النبرة إلى مفاوضات بعد أسبوعين دون تحضيرات مسبقة. ويشكل الملف الإيراني أحد هواجس ترامب الانتخابية، وقد تكون رسائله الناعمة لطهران ضمن الدعاية الانتخابية أمام منافسه الديمقراطي جون بايدن المعروف بحماسته للحوار مع طهران.
لم يكن قادة نظام طهران أقل حماسة من إدارة ترامب للمفاوضات المباشرة، وهم يبعثون يوميا بالرسائل السّرية والعلنية للإدارة الأميركية عبر وسطاء بينهم عرب، في أعلى هرم المسؤوليات القيادية الرسمية الباحثين عن مكانة بين الكبار، وآخرون من خارجها يستعيدون وظيفة السمسرة السياسية وصفقات السلاح والتي تراجعت بعد تصاعد نمط الميليشيات المسلحة بفعل الظروف الدولية والإقليمية في العقود الأخيرة.
الحكام الإيرانيون غارقون بالعجز المالي والفوضى بسبب العقوبات الأميركية وتصاعد الاحتجاجات الشعبية الداخلية، وغضب أهل العراق من وجودهم البشع في بلاد الرافدين، رغم الكبرياء الزائف الملّفق للولي الفقيه برفض الحوار مع واشنطن. بل إن أكثر الرموز الإيرانية المتشددة كالرئيس السابق محمود نجاد، بدا كحمامة سلام أكثر ليبرالية من بعض الإصلاحيين كروحاني مثلا.
في رسالة وجهها نجّاد إلى الرئيس ترامب حسبما صرح لصحيفة “نيويورك تايمز” في يوليو من العام الماضي، دعاه إلى التفاوض مع طهران، ووصفه في تعليقه على رسالته الشخصية إليه بأنه “رجل أفعال وهو رجل أعمال”، ولذلك بوسعه تقدير التكاليف والفوائد واتخاذ القرار. “دعونا نقدر التكاليف والفوائد بعيدة المدى لبلدينا ولن نكون قصيري النظر” وكشف أنه لم يتعرض لأي عقاب في بلاده لمحاولته الاتصال بترامب. فزعيمه خامنئي كما قال ليس ضد التفاوض مع واشنطن.
رغم قواعد صنع القرار السياسي الأميركي الخاضع للمؤسساتية المعروفة والتي يخضع لها أي رئيس للبيت الأبيض، هناك مساحة واسعة لمزاجه الشخصي ولدوافع مصالح اللوبيات وشركات السلاح والتصنيع الكبرى، خصوصا ما يتصف به ترامب من تقلبات محيّرة في المواقف.
لا نستغرب أن يتحول ضجيج التصعيد الأميركي الإيراني، إلى حدود اندلاع الحرب، إلى صلح مُدجن، ويصبح الخصمان، خامنئي وترامب، صديقين ليس بالمعنى الشخصي ولكن بالمعنى السياسي، فلا صلة إنسانية مشتركة تجمعهما فهما من عالمين مختلفين في الفكر والتحضّر والمدنية؛ ترامب أعلن قبل أيام في إحدى جولاته الانتخابية أنه فقد جميع أصدقائه وحل محلهم أعضاء الكونغرس الأميركي.
بعدها ستضاف حلقة من حلقات إحباط العراقيين، بما خلفته السياسات الأميركية من دمار وأذى، رغم أن شعب العراق وشبابه الثوار الصامدين لم يراهنوا على إنقاذ خارجي، بعد أن قدموا ويقدمون كواكب الشهداء على طريق استعادة بلدهم وهويتهم المختطفة.