محمد أبوالفضل يكتب:
مطلوب رؤية دولية شاملة لمكافحة الإرهاب
أطلقت صرخات مختلفة من بعض الدول العربية منذ فترة لحضّ المجتمع الدولي على بلورة رؤية شاملة لمكافحة الإرهاب. واكتوت دول بنيرانه دون الوصول إلى نتيجة محددة بشأن محاربته، وجرى القفز على القضية في مؤتمرات عقدت في دول كبرى كي لا تجد نفسها في مواجهة جماعات صنعتها، أو أسهمت في نموها عمدا وخطأ.
أثبتت السنوات الماضية أن الإرهاب والدول الراعية له يترعرعان في مساحة رمادية واسعة، قوامها التفرقة بين التنظيمات المتشددة وبين ما يسمّى بالقوى المعتدلة في التيار الإسلامي، مع أن دولا كثيرا بدأت تعترف صراحة بأن لا فرق بينهما، وتتخطى خدعة توظيف التركيز على التباعد بينهما لتحقيق أهداف سياسية، ففي النهاية ينحدر الجميع من معين واحد تقريبا.
حققت تجربة تهيئة المجال العربي للقوى الإسلاموية “المعتدلة” نصف نجاح ونصف فشل في الدول التي اختبرت فيها، وإذا كان الفشل جاء ذريعا في دول مثل مصر والسودان، فإن نصف النجاح في تونس والمغرب والجزائر والكويت من الممكن أن ينقلب إلى فشل كامل، في ظل الغطرسة التي ظهرت على عناصره المعلنة والخفية.
كما أن الدول الغربية، التي اقتنعت بالفكرة وروّجت لها سابقا، بدأت تُراجع جوانب في مقاطعها الرئيسية، بعد اكتشاف حجم المخاطر التي تنطوي عليها الظاهرة، وعقب تورط عناصر تنتمي إليها وتشرّبت منها في تحريض متباين على العنف.
لدى جهات عدة قوائم بالجماعات المتطرفة في العالم، تضم القيادات والتحركات ومصادر التمويل، وقوائم أخرى تحوي أسماء الدول التي توفر لهؤلاء ملاذات آمنة، مع ذلك تقتصر الحرب التي تشارك فيها قوى كبرى على الفئات التي تمثل تهديدا خطيرا لها، وتغض الطرف أحيانا عن تلك التي تحمل تهديدا بعيدا.
ساعدت التقسيمات المتفرقة على صعوبة القضاء على الفئة الثانية، وتوفير غطاء سياسي لها وحماية مكّنتها من تخفيف حدة الملاحقات الأمنية، انعكسا في شكل ضربات ارتدادية كبدت البعض خسائر فادحة.
بحّ صوت الرباعي العربي، مصر والسعودية والإمارات والبحرين، في حض المجتمع الدولي على التعامل بجدية مع القوائم التي أعلنت وضمت أسماء وأماكن شخصيات غارقة في الإرهاب والجهات التي تقدم دعما له، ولكن لا حياة لمن تنادي.
وكأن مرتكبي الجرائم الإرهابية تقتصر أعمالهم على بيئة معينة، أو تعهدوا بمحاربة (س) من الدول وترك أو الهدنة مع (ص)، بينما الحقيقة أثبتت أن الإرهاب لا وطن ولا دين له، ولا توجد دولة معصومة منه، وتحتاج مكافحته تكاتفا جماعيا.
جاءت الصرخات التي أطلقتها فرنسا مؤخرا كجرس إنذار لما يسمى بالانفصالية والانعزالية الإسلامية، عسى أن تفيق الدول الغربية، التي تمثل حاضنة للمتطرفين، وتتبنى تعريفا دوليا شاملا للإرهاب، وتتخلّص من الانتقائية التي تحكم جملة من التصرفات، وتتخلى عن الشيزوفرينيا التي تقيد التحركات، وتعيد الاعتبار لجدوى التعاون بين الدول في فضاء قاتم يصعب ملاحقة المتحركين فيه في وجود دول مع المواجهة الحاسمة، ودول تتلكأ فيها.
تفيق الدول الكبرى عندما يتعلق الأمر بأمنها القومي مباشرة، وتعتقد أنها بعيدة عن العمليات الإرهابية التي تقع في مالي أو موزمبيق أو نيجيريا، وتتجاهل أن التكوين الفكري واحد، ومن السهولة انتقال حامليه من مكان إلى آخر، ومن السهولة ارتكاب جرائم عنف وتغليفها بفتاوى من ورق السلوفان، أي من الصعوبة تغطية أغراضها.
أمضت الولايات المتحدة ما يقرب من عقدين في حربها على أفغانستان، وأخفقت في القضاء على الإرهاب، واضطرت إلى الحوار مع حركة طالبان، ووقعت اتفاق سلام معها، هذا في العلن، فما بالنا بما جرى في الخفاء مع طالبان أو غيرها؟
وتتلخص العبرة في أن واشنطن تخوض حربا فعلا على الإرهاب وفقا لقاموسها السياسي ومصالحها الاستراتيجية ومن خلال طائراتها المسيّرة، بينما الحرب الجادة تقتضي توحيد المفاهيم والتعاون والتنسيق واستخدام كل الأدوات لتجفيف منابعه.
تتسم بعض القوى الكبرى بالنفاق السياسي عندما يبدو الأمر بعيدا عنها، ويمثل عدم الحسم والسيولة فائدة لها، لذلك تتنصل من التقيد بالتزامات محددة، وتلجأ إلى تعويم قضية حيوية مثل الإرهاب، ما يوفر لأصحابها زخما في الحركة والانتقال والسعي للوصول إلى الأهداف المرجوة، ما يضاعف من الهوة بين الدول التي تحارب الإرهاب بإخلاص، وأخرى تدّعي ذلك.
لم تعد هناك رفاهية للمتاجرة السياسية بملف كبير بحجم الإرهاب، فقد أدى التهاون والتراخي والتهرب من التفاهم حول رؤية شاملة إلى اتساع الرقعة التي يمارس فيها الإرهابيون هوايتهم في القتل.
وقد يكون خفت نجم تنظيم داعش في بعض الدول العربية، لكنه عاد ليطل برأسه في أخرى بعيدة عن دول المركز في العالم، في ما يشبه دخول مرحلة جديدة من الاستقواء والتمدد.
ليس بالضرورة أن يكون العمل الإرهابي داخل الدولة ونظامها المستهدف، بل من الممكن أن يوجه ضد مصالحها النائية في أي مكان، فالمطلوب وقوع أقصى ضرر ممكن، حيث دُمرت سفارات لدول عديدة في مختلف أنحاء العالم، واغتيلت شخصيات خارج بلادها، فالمهم الوصول إلى الهدف السهل، وتوصيل رسائل سياسية تفوق نسبة التدمير المادي.
لا يقتصر تعريف مفهوم الإرهاب بصورة شاملة وتحديد آليات مكافحته على التيار الإسلامي، لكنه يشمل كل الجرائم التي ترتكب على أساس الدين والعرق والمذهب وغيرها، ما يجعل عملية التوافق صعبة بين الدول، لأن تقديم رؤية عالمية تتحول إلى مُرشد للمجتمع الدولي يمكن أن تعرّض بعض الدول إلى أزمات، واتهامات بالتواطؤ مع عمليات إرهابية، وربما المساهمة في التخطيط لها، أو عدم التصدي لمنعها.
تفضي مقاربة دولية جادة من هذا النوع إلى حل جملة من التناقضات الحالية بين دول تواجه الإرهاب وتتخذ إجراءات حقيقية لمكافحته، وبين دول تتلاعب به وتستثمر فيه، وتتصور أنه لن يجرؤ على المساس بها، هي معادلة مركبة يصعب الفكاك من براثنها دون مبادرة واضحة، بعيدة عن السرديات النمطية وفقر الجدية في التعامل مع القضية بكل أبعادها.
يمكن أن توقظ التحركات الفرنسية دولا كثيرة من تعمّد التغافل عن المخاطر التي تحملها الازدواجية في ملف مكافحة الإرهاب، وتصحّح طريقة التعامل مع القوى الإسلاموية، ويمكن أن تفرض عليها توخي الحذر في الفترة المقبلة، فإعادة إنتاج مسلمات سابقة في هذا المجال قد تصبح مرفوضة على نطاق واسع.