محمد أبوالفضل يكتب:

مكاسب الدول الصغرى من تعدد القوى الكبرى

يتغير النظام الدولي بوتيرة متسارعة، ويأخذ اتجاها نحو تعدد قواه الكبرى، فعندما تعود الولايات المتحدة إلى ممارسة دورها بشكل أكثر نشاطا على صعيد السياسة الخارجية ستجد نفسها فقدت الكثير من الأدوات التي احتكرتها لفترة طويلة، وما تعتقد أنهم حلفاء وجدوا ملاذات موازية في قوى أخرى منافسة لها.

تعددت أشكال القوى الفعالة في النظام الدولي، وبدأت بصمات روسيا والصين وفرنسا تظهر بمحاذاة الولايات المتحدة، وربما أكثر نشاطا منها في بعض القضايا بما يتجاوز الصيغة التقليدية بشقيها السياسي والاقتصادي، شرق وغرب، واشنطن وموسكو، أو الأمنية، حلف الناتو وحلف وارسو.

تعتقد بعض الدول الصغرى، من ناحية التنمية والقدرات السياسية والإمكانيات العسكرية، أنها وجدت ضالتها في هذا التعدد، واستفادت من التحولات الجارية على مستوى توازنات القوى الدولية، التي لم تعد ترهن مفاتيح القرارات في قوة بعينها، فواشنطن التي تسيّدت العالم بمفردها تقريبا لنحو ثلاثة عقود متواصلة بدأت تنسحب تدريجيا، وتعود موسكو سريعا، ويتسع نفوذ بكين.

يقلّل هذا التنوع من ارتفاع تأثير قوة بعينها في الكثير من القضايا الإقليمية، ويمنح الدول الصغرى مساحة للمناورة والهروب من التعرض لضغوط مباشرة بغرض تلبية مطالب محددة، وتستفيد بأقصى درجة من هذه الميزة، سياسيا واقتصاديا وعسكريا.

نجحت دول عديدة خلال الفترة الماضية في توظيف التنوع الدولي، والاجتهاد في بناء منظومة قد تخرجها من الصيغة السابقة، والجديد أنها لا تنطوي على انتقال من قوة إلى أخرى، وأصبح مقبولا الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع أكثر من دولة في وقت واحد.

يكاد يكون نموذج التحالف أو العلاقة الاستراتيجية بين دولة صغيرة وقوة كبرى ليس حكرا على أحد، فمن الممكن أن تحتفظ الدولة، أيّ دولة كانت كبيرة أم صغيرة، بروابط متينة مع قوى متخاصمة أو متنافسة عالمية، بمعنى أن التطور ربما يشهد تحسنا على الجبهتين، حيث تراجع العمل بالمعادلة الصفرية الشهيرة في حالات دولية كثيرة، والتي تقوم على مكاسب لطرف وخسارة للطرف الآخر.

أدت كثافة الصراعات والتوترات وتعدد الجهات المنخرطة فيها وانخفاض مستوى تأثير القوى الكبرى إلى الاتفاق والاختلاف في الوقت ذاته، فقد تنسجم مصالح دولة صغيرة مع قوة كبيرة في ملف وتتباعد في آخر، ما أضفى بريقا على مسألة التعدد والتنوع، والتحلل من الارتهان لقوة معينة، والحصول على مجال حيوي للحركة.

يأتي طرح الحديث عن أهداف الدول الصغرى مع الكبرى أو العكس، من رحم العلاقة الصاعدة بين السودان وروسيا، حيث أعلنت الثانية قبل أيام عزمها تشييد قاعدة بحرية لها في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، واستجابت الخرطوم في الوقت الذي تسعى فيه لتوطيد علاقتها بواشنطن.

نجحت السلطة الانتقالية بالخرطوم في الحصول على موافقة رسمية من إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب، بشأن رفع اسم السودان من اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وبدت الأمور تسير في اتجاه توطيد العلاقات في مجالات حيوية، بما أوحى أن السودان سوف يكون أقرب للولايات المتحدة من أي وقت مضى.

لم تظهر تطورات لافتة في علاقة الخرطوم بموسكو طوال الأشهر الماضية تؤكد وجود رغبة مشتركة على أي تعاون عسكري كبير، وكانت الرهانات تذهب لصالح واشنطن، التي باتت منزعجة من المقاربات الروسية المتعددة في منطقة الشرق الأوسط، وتحاول فرملتها، وجاء التقارب الجديد بين السودان وروسيا على وقع إحياء اتفاقيات عسكرية قديمة.

يفسر التعاون العسكري من زاويتين، الأولى أن الخرطوم تواصل سياستها في تنويع القوى التي تقيم معها شراكات أو تحالفات، بما يصب في اتجاه القراءة الواعية للواقعين الإقليمي والدولي، وما يموج به كلاهما من تحولات قد لا تمكن البعض من التأقلم مع تداعياتها ويمثل التنوع عاملا مهما لتجنب الخسائر، حال تغير الدفة في الاتجاه المقابل.

يبني السودان ميله ناحية موسكو، كما يميل أيضا ناحية الصين، فضلا عن أميركا، لتحاشي وقوع هزات في أي من الجبهات المتصارعة وتحمل نتائجها، وأصبح هذا الأمر مألوفا لدى دول مختلفة، ولم يعد مستغربا أن يملك السودان، أو غيره، علاقة جيدة بكل من موسكو وبكين وواشنطن في وقت واحد.

أما الزاوية الثانية التي تصلح لتفسير التقارب العسكري بين الخرطوم وموسكو، فتتعلق بحسابات روسيا الرامية إلى تكريس وجودها في المياه الدافئة، في البحرين المتوسط والأحمر، وبعد أن تمترست في سوريا وضاعفت إطلالتها على شرق المتوسط من هناك، تسعى إلى الحصول على موطئ قدم في جنوبه عبر تدخلها في الأزمة الليبية.

لا تزال هذه الخطوة أمامها وقت لتتبلور في صورة واضحة، حيث انتفضت الولايات المتحدة لزيادة تدخلها في الأزمة الليبية بمجرد أن شعرت بزحف موسكو بهدوء عليها، حتى باغتتها بخطوة إنشاء قاعدة عسكرية في ميناء بورتسودان المطل على البحر الأحمر.

يحاول السودان تحقيق أعلى فائدة من موقعه الاستراتيجي على الجبهات المختلفة، ويعلم أن أعين قوى كبرى مصوّبة عليه منذ سقوط نظام الرئيس عمر البشير، ما يمكنه من جني ثمار عدة، وسوف يقدم على خطأ إذا رهن علاقته بقوة واحدة، وهو يرى أن النظام الحاكم في الجارة مصر أدار فكرة التنوع بطريقة حكيمة، أبعدته عن التعرض لضغوط كبيرة في بعض الأوقات.

ليس واضحا حتى الآن، إذا كان دخول روسيا إلى البحر الأحمر من بوابة السودان يعني انتهاء العلاقة مع تركيا، وغلق قضية جزيرة سواكن التي وقّعت أنقرة اتفاقيات مع الخرطوم إبان عهد البشير لتطويرها اقتصاديا وعسكريا.

أوحت السلطة الانتقالية بتجميد ملف سواكن مبكرا، لكن لا يزال الباب مواربا، وفي ظل لعبة تقسيم الأدوار بين موسكو وأنقرة غير مستبعد أن يكون السودان قاسما مشتركا جديدا بينهما في المنطقة، توازن به الخرطوم علاقتها المتطورة مع القاهرة وواشنطن، وتؤكد عزمها على عدم وضع كل أوراقها في سلة واحدة.

يعد تنفيذ مشروع القاعدة الروسية في السودان بديلا عن مشروع آخر ظلت موسكو تعمل عليه مع مصر للحصول على قاعدة بحرية أو تسهيلات عسكرية، غير أن الأخيرة رفضت هذا الطلب، وتحول إلى غصة في حلق روسيا أرخت بظلال سلبية على بعض أطر التعاون المشترك، لأن القاهرة رفضت عروضا مماثلة من جانب الولايات المتحدة على مدار عقود ماضية.

لذلك يحقق ارتفاع عدد القوى الكبرى المؤثرة في التفاعلات الإقليمية والدولية مكاسب للدول الصغيرة، أو يدرأ عنها تكبد خسائر، ويمنحها فرصة واسعة لتوفيق أوضاعها وفقا للمعطيات التي تحيط بها، طالما أن الأخيرة تحسن الاستفادة من التنوع، الذي يمكن أن يلعب دورا أكثر حيوية الفترة المقبلة، في ظل تنامي تطلعات البعض لتحقيق طموحاتهم الاستراتيجية.