ماجد السامرائي يكتب:
حكام بغداد غرباء عن الوطن والسياسة
من أولى مبادئ وقواعد السياسة في العالم الديمقراطي هي أن الحزب أو المنظمة أو الجماعة المتعاطية للشأن العام، حين تفشل وتخسر جمهورها، تنسحب وتعلن هذا الفشل في احترام لرأي الجمهور، لتتيح للآخرين فرصتهم لممارسة الحكم من خلال انتخابات نزيهة، وليس كانتخابات ما بعد العام 2005 في العراق، حيث لهذا البلد قصة مختلفة في أصول الحكم، فلا هي عملية تغيير سلمي ديمقراطي للنظام السابق، ولا هي ثورة شعبية، ولا هي انقلاب عسكري جاء بحكم شعبي بديل.
جماعات الإسلام الشيعي في العراق، المرتبطة بإيران، جاء بها دون غيرها مشروع “المحافظون الجدد” في واشنطن؛ الذي كان في ذروة انتعاشه في عهد الرئيس جورج بوش الابن، وأبرز قادته ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وبول وولفوتز وإليوت أبرامز وريتشارد بيرل، ولحق بهم بالولاء والتنفيذ بول بريمر.
هؤلاء أقنعوا جورج بوش بأن الغزو العسكري للعراق يجب أن يتبعه تسليم الحكم لجماعات شيعية، يمكن العثور على أفرادها في مقاهي وحارات دمشق وحسينيات طهران ولندن، وعاونتهم في تلك المهمة القيادة الكردية المتمثلة بكل من الراحل جلال الطالباني ومسعود البارزاني، ثم تنكر لهم هؤلاء مثلما تنكروا للأميركان بعد أن اشتد عودهم.
الثوار الشباب رغم تجميد فعاليتهم الاعتصامية، خاصة في ميدان التحرير ببغداد، فإنهم اكتسبوا مهارة سياسية في التصدّي السلمي لسطوة هذه الأحزاب، بعد أن فضحوا تورطها في قتل الشباب الثائر
هكذا تحوّل إلى حكام من ليس لديهم علاقة بالسياسة سوى تنفيذ تعليمات نظام الخميني خلال الحرب العراقية الإيرانية، في المفخخات وتفجير السفارات والمؤسسات الحكومية العراقية، وتصدّر حزب الدعوة مهمة خيانة الوطن بعد أن هجر تنظيراته الغامضة وتاه بين حكم ولاية الفقيه ومشروع الدولة الشيعية الصدرية، وأصبحت نشاطاته الدعائية والتعبوية داخل العراق منفذة لمشروع تصدير الثورة الإيرانية، خصوصا خلال الحرب العراقية الإيرانية 1980 - 1988.
حقيقة وصول هذه الجماعات إلى الحكم من خلال الغزو الأميركي كانت كافية لوحدها لعزلها ووضعها تحت حكم العدالة الوطنية الشعبية، مثلما حصل لحكومة “فيشي” العميلة للاحتلال الهتلري في فرنسا، التي انتهت بنهاية ذلك الاحتلال وتمت محاكمة رموزها. لكن قيادة الاحتلال الأميركي وفرّت لهذه الأحزاب جميع وسائل الحماية الأمنية بما سمّيت المنطقة الخضراء ببغداد والرعاية السياسية للحفاظ على السلطة عبر لعبة الانتخابات، وترسيخ هيمنة الإسلام السياسي الشيعي بقوة السلاح الأميركي ثم سلاح وكلاء إيران، الذين تدفقوا وتوطنوا في العاصمة العراقية وباقي المحافظات، ومباشرتهم مشروع التصفيات الجماعية تحت عناوين التطهير الطائفي واجتثاث البعث.
خلال ثماني سنوات من الاحتلال العسكري الأميركي 2003 – 2011 أُنجزت مهمة التصفيات الجسدية للآلاف من المعارضين للاحتلال الأميركي تحت عنوان “الإرهاب”، وتعززت هذه التهمة وأُضيف إليها ما أنتجته دوائر اليمين الأميركي ونفذته أحزاب الكراهية في “اجتثاث البعث”، الذي أصبح ولا يزال سلاحا، ليس للقضاء على أي معارضة سياسية، وإنما لحرمان المواطنين من حقوقهم المشروعة في الحياة الكريمة.
كانت اللعبة الرخيصة، التي أعطت مشروعية طائفية لتلك الجماعات، هي التحاق بعض مدّعي تمثيل العرب السنة لاستكمال المثلث الطائفي والعرقي، رغم خصوصية حق الشعب الكردي في الحكم الذاتي أو الاستقلال. زعامات سنّية ظهرت لا علاقة لها بالسياسة، بعض المنتمين إليها يتقن فن التجارة، والبعض الآخر ليس لديه سجل لمعارضة النظام السابق، بل كانوا من مناصريه، جرفهم إلى ساحل السياسة سيل المشروع الأميركي الفاشل ثم الإيراني المهيمن على العراق.
ثمان سنوات قضاها المحتلون الأميركان لتثبيت نظام الاستبداد الطائفي، وكان بعض قادة تلك الأحزاب محقا في التعبير عن عرفانه للقادة الأميركان، مثال تقديم رئيس حزب الدعوة السابق، إبراهيم الجعفري، سيف ذو الفقار علي بن أبي طالب هدية لوزير الدفاع الأميركي رمز المحافظين الجدد دونالد رامسفيلد ببغداد. وزيارة نوري المالكي، حين كان رئيسا للوزراء، مقبرة القتلى الأميركان في واشنطن.
ليس مستغربا عدم اهتمام تلك الأحزاب والمجموعات، المتناسلة من الإسلام الشيعي، بقضايا تتعلق بحياة شعب العراق، لأن قادة تلك الأحزاب لا علاقة لهم بالسياسة وتقاليدها، ولا بأحكام المسؤولية الوطنية، همّهم كان ولا يزال التفنّن بوسائل سرقة مال الشعب العراقي، لدرجة أن بلد النفط والثروات تصبح حكومته في عام 2020 غير قادرة على دفع رواتب الموظفين، فتلجأ إلى الاقتراض الداخلي في دائرة مغلقة ستقود إلى إعلان إفلاس البلد.
لم تمتلك الأحزاب الشيعية وقادتها الحد الأدنى من معايير السياسة والانتساب إلى الوطن، والمفروض بهم التخلي عن مسؤولية السلطة، والاعتراف أمام الشعب العراقي بخطاياهم، مكتفين بما نهبوه من مئات الملايين من الدولارات، ويرحلوا إلى قصور اشتروها في مختلف بقاع العالم، لا أن يستميتوا، كما يفعلوا حاليا، من أجل الاستمرار في السلطة، حتى بعد أن خسروا من اعتقدوا أنهم جمهورهم الشيعي، من خلال وضع ترتيبات الحماية والمشروعية في الآليات الجديدة للانتخابات، وسرقة شعارات ثورة شباب أكتوبر، بعد أن اغتالوها بسلاح ناعم، وأطلقوا أكثر من أربعمئة عنوان لأحزاب جديدة تخوض الانتخابات المبكرة.
بدلا عن التخلي المستحيل، تُنصب المنابر مجددا في القاعات الفخمة، التي تشابه في أعمدتها الرخامية وديكوراتها الأسطورية، قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، وهي في الأساس ممتلكات للدولة مسروقة. وبدلا من الخروج إلى الهواء الطلق للقاء الجمهور، يتم استدعاء المئات من الموالين في ظرف كورونا، بمشهد يقترب من أساطير الإمبراطوريات، بينما القائد الورع وريث أجداده كان يعظ في الفقه الشيعي بالنجف على حصير من القش.
وتشحذ سكاكين التعصب الطائفي من قبل زعماء حكموا وفشلوا وسرقوا وقدموا ثلث أرض العراق لصنيعتهم وصنيعة أوليائهم عصابات داعش، يضربون على وتر الطائفية الدموي مجددا، يبحثون في أرياف وأزقة المدن العربية السنية بالموصل وصلاح الدين والأنبار وديالى، عمّن بقى من الشباب الأبرياء ليغيّبوهم في السجون السرّية، أو يقتلوهم على مرأى من شهداء الزور متعاطي اللعبة من السنة.
الهبّة الجديدة من الفعاليات الانتخابية، من قبل الأحزاب الشيعية وميليشياتها المسلحة، تجري بوتيرة تبدو معها واثقة من الفوز المقبل، لتكشف بذلك جهلها وعدم علاقتها بالسياسة. ولأن استمرارها قائم على معادلة خارجية، تعتقد أن طهران انتصرت في إزاحة الرئيس الأميركي ترامب عن الولاية الثانية، لهذا هي باقية في السلطة ببغداد. مع أن هذا الأمر شأن أميركي داخلي لا علاقة له بالسياسة الخارجية.
قد يقول بعض العراقيين المحبطين واليائسين، طالما أن مجموعة الحكم الحالي لا تتعاطى السياسة وأن شغلها يقترب من نشاطات المافيات، ألا ينبغي أن تقابل بذات الأنماط من المواجهة؟
جماعات الإسلام الشيعي في العراق، المرتبطة بإيران، جاء بها دون غيرها مشروع “المحافظون الجدد” في واشنطن؛ الذي كان في ذروة انتعاشه في عهد الرئيس جورج بوش الابن
لكن التاريخ الإنساني والمحلي يقول: صحيح أن العراق لم يشهد هذا النمط من الحكام عبر تاريخه الطويل، رغم ذلك، سارقو مال العراق وقتلة مئات الألوف من الأبرياء وقتهم قصير، حتى وإن حكموا بالسلاح وإرهاب الناس، وسيّدوا الميليشيات المسلحة على رقابهم.
الثوار الشباب رغم تجميد فعاليتهم الاعتصامية، خاصة في ميدان التحرير ببغداد، فإنهم اكتسبوا مهارة سياسية في التصدّي السلمي لسطوة هذه الأحزاب، بعد أن فضحوا تورطها في قتل الشباب الثائر، حتى وإن لم يصل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى موقف حاسم وجريء يكشف المتورطين ومن يقفون خلفهم.
زمن هؤلاء القتلة والفاسدين الذين يحكموا في بغداد، رغم جهلهم أصول السياسة، والغرباء عن العراق قصير جداً.