ماجد السامرائي يكتب:
بعد التجويع.. تقنين الحكم البوليسي في العراق
توصف عهود ما قبل عام 2003 بالدكتاتورية والتضييق على حريات التعبير والآراء السياسية، لكن لا أحد من مروجي وداعمي وموالي النظام السياسي الحالي، الذي صنعته أميركا وإيران، يستطيع إقناع الناس بأن تلك النظم لم تكن حريصة وحامية لأمن البلد وسيادته وحماية مواطنيه.
مثال نظام صدام الذي عارضه حكام اليوم وتآمروا عليه وتعاونوا مع جميع شياطين العالم لإسقاطه، رغم أنه كان نموذجا فريدا في تكميم أفواه المعارضين والبطش بمن يتآمر عليه، دون تمييز طائفي أو عرقي، لكنه بذات الوقت سنّ قوانين رادعة مازالت سارية التطبيق، عقوبة الإعدام ضد كل من يتعامل مع مخابرات أجنبية، ويلحق أضرارا بالأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أو يتاجر بالمخدرات ويروّج لها.
آليات وسائل الرصد الأمني داخل العراق كانت قبل 2003 تعتمد على القدرات والإمكانات البشرية “شرطة الأمن” ومخبريهم في المراقبة والملاحقة أو التنصت السّري بحدود ضيقة، فلا جيوش إلكترونية ولا رصد للآلاف من المقابلات في الفضائيات أو هاشتاغات التويتر أو الفيسبوك، مثلما هو حاصل على مدى العقود الثلاثة الأخيرة.
العراق الذي يعيش حالة انهيار في جميع الميادين بحاجة إلى تعزيز المنابر الحرة وحمايتها لملاحقة فضائح الفساد الذي طال حتى رواتب المتقاعدين وليس إلى سن قانون تجريم أصحاب المعلومة والرأي الحر
هناك من يقول لو أعطى صدام لجمهور الشيعة الحرية المطلقة في التعبير عن طقوسهم المذهبية لاستمر في حكم العراق طوال عمره، ولما حصلت تلك الرغبة بالانعتاق من مشاعر الكبت الطويل لمشاعر البسطاء من الشيعة. لكن هذا الرأي مٌبسّط ويفتقد للدقة، لقد صدّرت طهران ملف الطقوس الشيعية إلى العراق عبر عملائها خلال الحرب العراقية الإيرانية، ورسختها بعد عام 2003 في تسييس بشع واستغلال لمشاعر البسطاء من الناس وليس إيمانا بتلك المشاعر.
لم يكن للأحزاب الشيعية الفضل في إطلاق الحريات العامة بالعراق، بل هي منحة الأميركان المرّة بعد غزوهم للبلد عام 2003، ترجمت إلى حالة من الانفلات الجماعي، حرية في السياسة ووسائل التعبير في الصحافة والفضائيات، لكن في ظل هذا الانفلات أصبح “الحرامي” والوافد الغريب سيدا مهيبا في الشارع العراقي، تحميه بندقية الجندي الأميركي وبعدها بندقية الميليشياوي.
المستثمر الوحيد لهذا الانفلات كانت الأحزاب الشيعية، فعملت على بناء نفسها وتعزيز هيمنتها الدعوية على الجمهور العراقي. وانزوى الوطنيون والكفاءات من العلماء والمثقفين تحت جدران بيوتهم اتقاء شرور الأشرار، ومن توفرت لهم الفرصة غادروا الوطن وحصلوا على رعاية دول اللجوء في الغرب وبلدان الخليج العربي، التي استثمرت تلك الكفاءات النادرة بالشكل اللائق الذي تستحقه.
منذ عام 2011 بعد خروج القوات الأميركية، وجدت الأحزاب الشيعية أن موسم الحرية التي جاءت بها قد انتهى، ولا بد من تقنين الفضاء الإعلامي وتدجينه، فناقشت داخل البرلمان وخارجه منذ ذلك العام مشروع قانون جرائم المعلومات، لفرض عقوبات تصل إلى الحكم المؤبد ضد أنماط عدة من وسائل التعبير الإلكتروني الناقدة أو الفاضحة للفساد بحجج كثيرة كتهديد أمن البلاد أو الاعتداء على حرمات الرموز الشيعية “المقدسة”. هذا المشروع فشل في التمرير ذلك العام ثم أعيد عرضه عدة مرات، آخرها قبل أسبوعين، وتم تأجيل إقراره مؤقتا داخل البرلمان.
المعركة الداخلية مستعرة بين جميع الأطراف الشيعية، بعضها يسعى إلى تقليل وغلق بعض منابر التسقط الإعلامية من خلال قانون جرائم المعلوماتية، والبعض الآخر يجد في إصداره حماية لهم من حملات الفضائح الكبرى في القتل والاختطاف والسرقات الكبرى، التي تكشفها نخب الشباب المنتفض والصحافيون والكتاب العراقيون الأحرار.سبب عدم إقرار البرلمان حاليا لهذا المشروع الخطير والكاتم للحريات لم يكن فقط بسبب الضغط الهائل من قبل منظمات المجتمع المدني المحلية، والتقرير الخطير لمنظمة “هيومان رايتس ووتش” بل لوجود خلافات شيعية – شيعية حول من يتسيّد الحكم من الشيعة عام 2021، بعد فشلهم في تجربتي عادل عبدالمهدي ومصطفى الكاظمي.
القانون الجديد بعد إقراره سيعطي الصلاحيات المطلقة للجلادين والقتلة، داخل الحكومة وخارجها، للزج بالآلاف من الشباب والكتاب والصحافيين في السجون، تحت تهم الإضرار بالأمن العام أو الإساءة للرموز الشيعية السياسية والدينية، فيما تعفي الحكومة وأحزابها نفسها من المساءلة وهي تنشئ المئات من أجهزة المراقبة البوليسية والتصنت والمتابعة الإلكترونية ضد المواطنين.
بعد سبعة عشر عاما من حكم الأحزاب الشيعية، حيث توطدت هيمنتها على الناس بقوة سلاح الميليشيات وبدعم نظام طهران، اكتشفت ضرورة تقنين تكميم أفواه الشعب بعد أن جوّعته على غرار تجربتها الناجحة التي ورثتها من المحتل الأميركي في قانون محاربة الإرهاب، ومادته الرابعة التي تحولت إلى سيف قانوني يستخدم ضد كل المعارضين للنظام، خصوصا أبناء الطائفة العربية السنية.
قادة الأحزاب الشيعية وميليشياتها لا تهمهم أصوات المنظمات المحلية والدولية المنددة بانتهاكات حقوق الإنسان وإرهاب المواطنين وقمعهم وتكميم أفواههم بالقوانين البوليسية، حتى لو وصل الحال إلى إعلان أممي بأن العراق أصبح عنوانه بلد الموت والتجويع والإرهاب والفساد. هم مصرّون على الاعتقاد بأن الحكم لن يخرج من أيديهم لأن هناك صكا ووثيقة وقعها الولي الفقيه في طهران لا تسمح بتغيير النظام في بغداد إلى حكم المواطنة المدنية، ولدى تلك الأحزاب وميليشياتها الاستعداد لتحويل بغداد والمحافظات العربية السنية والشيعية إلى بحر من دماء قبل أن تستسلم لمصيرها المحتوم وتقبل بالرحيل عن السلطة.
قبل أيام أعلنت الأمم المتحدة عن وجود 420 معتقلا سريا لا يمكن الوصول إليها، ودعت السلطات العراقية إلى إدراج جريمة الاختفاء القسري في التشريعات الجنائية المحلية، وضمان عدم احتجاز أي شخص في مكان سري. كذلك أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن العراق يعتبر واحدا من المناطق التي يوجد فيها أكبر عدد للمفقودين في العالم.
مهمّ وضروري تنظيم حكومات الدول المستقرة وتقنينها لضبط حركة الثورة التكنولوجية، ومنع مخاطرها على الأفراد والمجتمعات، انتبهت دول أوروبية وعربية متقدمة لذلك، وشرّعت قوانين حماية المعلوماتية والاختراقات التي تواجهها خصوصيات الأفراد وأمن الدول، مع الحفاظ على مبادئ التدفق الحر للمعلومات وحق الصحافيين في الوصول إليها من أجل الحقيقة، دون مساس بحقوق الأفراد الشخصية.
العراق، الذي يعيش حالة انهيار في جميع الميادين، بحاجة إلى تعزيز المنابر الحرة وحمايتها لملاحقة فضائح الفساد، الذي طال حتى رواتب المتقاعدين، وليس إلى سن قانون تجريم وسجن أصحاب المعلومة والرأي الحر تحت أغطية مختلفة، كحماية الأمن الوطني والرموز الدينية الشيعية.
قبل أيام قررت محكمة بريطانية، وليست محكمة عراقية، إدانة وتجريم مسؤولين عراقيين بتهم فساد في قطاع النفط، على رأسهم الوزير السابق حسين الشهرستاني، نقل وقائعها بالوثائق على الفضائيات صحافي عراقي، ووفق القانون الذي سيشرع يذهب هذا الصحافي إلى السجن.
أحزاب فاسدة لا تكتفي بتجويع هذا الشعب وإهانة قاماته وعلمائه ونسائه وأطفاله، وإنما تشرّع قوانين بوليسية لملاحقة وإرهاب وسجن من ينطق بالحقيقة.