محمد أبوالفضل يكتب:
مصر تعزز مبدأ عدم المصالحة مع الإخوان
بعث النظام المصري بمجموعة من الرسائل السياسية التي تؤكد أنه لا شيء تغير مع مبدأ الرفض الصارم لجماعة الإخوان، ومن يفكرون في مصالحة سياسية مع مجيء الرئيس الأميركي الجديد جون بايدن واهمون وحالمون، لأن القضية تتعلق بثوابت نظام يعتبر الخصومة حدّية مع الجماعة، ثوابت يصعب التضحية بها، وأي هزة فيها يمكن أن تتسبب في تفسخ بعض المعايير التي يستمد منها قوته.
أكد إلقاء أجهزة الأمن خلال الأيام الماضية القبض على عدد من رجال الأعمال المحسوبين على الجماعة بعد أن ظلوا طلقاء، أن مبدأ الرفض لا يزال مستمرا، بما يدعم فكرة أن المواجهة لن تتوقف لأي سبب، وأن هناك الكثير من الأوراق التي يملكها النظام في جعبته وينغصّ بها على الجماعة في يقظتها ومنامها.
جاءت الرسائل التي بعث بها الرئيس عبدالفتاح السيسي أثناء زيارته إلى فرنسا التي اختتمت الأربعاء، لتعزز مبدأ عدم التغيير في التعاطي مع الجماعة، بل على العكس هناك تحركات حثيثة لكشفها أمام من وثقوا بها وراهنوا عليها في الخارج على أنها تمثل تيارا “معتدلا” يقف في مواجهة المتشددين، وهي الفرية التي أجادت ترويجها على مدار سنوات، وضمنت لها دعما غربيا سخيا.
وجدّد التثمين المصري المشروط للمصالحة الخليجية مع قطر مبدأ الرفض ووضعه في مكانه المركزي، حيث تأكد أن جزءا من المشروطية تحدده الاستجابة لمطالب الدول العربية التي قاطعت الدوحة، وفي مقدمتها “الاستتابة” ومراجعة جملة المواقف التي تبنتها لدعم الإخوان والجماعات المتطرفة في المنطقة، والتخلي عن تحول الأراضي القطرية إلى ملاذ لهم، ومنع استهداف الدول بأي وسيلة.
قطعت هذه التوجهات حديث الإفك أو المصالحة التي تصورت الجماعة أنها قادرة على فرضها بشروطها، في ظل توهم قيادات كثيرة بأن هناك دعما نوعيا ستتحصل عليه من الولايات المتحدة مع دخول بايدن البيت الأبيض، أو بعد أشهر قليلة من ذلك، وهي مزاعم حاول الترويج لها القيادي الإخواني إبراهيم منير مؤخرا.
كشفت ردود الفعل التي تلت الإشارات المصرية الحادة أن خطاب القاهرة تغير في التعامل مع الجماعة وبات يتبنى موقفا هجوميا، ولا يقتصر على رد الفعل، كما حدثت تغيرات لمؤيدي الإخوان التقليديين أجبرتهم على إعادة النظر في الآليات التي تبنوها سابقا، ووضعت الإخوان ضمن سلة أدوات تستخدم لتنفيذ السياسة الخارجية.
بينما ظلت الجماعة على جمودها، وكأن السنوات الماضية الحافلة بالتطورات لم تؤثر فيها أو تجبرها على الاستفادة من عبرها ودروسها، ومن ثم قراءة العالم بصورة ديناميكية، وهو ما يجعل المصالحة أبعد من أي وقت مضى، فإذا كان الفيتو والممانعة والرفض جرى رسمها عليها في أوج قوة الجماعة، فما بالنا وهي في تراجع.
قصدت مصر الساحات التي وفرت مأوى وحاضنة للإخوان وضربت فيها بعمق لتكسير مفاهيم زائفة اعتمدت عليها، من نوعية أنها جماعة سياسية ديمقراطية تتصدى للعنف، وتيقنت دول كثيرة أنها أحد أهم مصادر العنف الذي يتبناه الخط الجهادي في العالم، ولم تعد تنطلي عليها الحجج التي سوقتها الجماعة حول براءتها من سلاسل الدم التي انتشرت في دول عديدة.
كما أن جدول أعمال القوى الرئيسية التي دعمتها دخلت عليه تحولات قللت من فكرة تقمصها دور رأس الحربة للتغيير في المنطقة، ونجحت القاهرة وحلفاؤها في الخليج العربي في رفع الغطاء عن جزء من الالتباسات السياسية على دول أوروبية، وارتفعت شبكة المصالح بين الجانبين بشكل يصعب أن يتجاهله صاحب قرار، وتم نزع ورقة التوت عن الإخوان كأداة تستطيع المحافظة على مصالح الدول الغربية في مصر.
يتزايد التعامل الحاسم مع الإخوان كل يوم، لأن الليونة معهم تضرب الشرعية الرئيسية للنظام المصري التي يستمدها من ثورة 30 يونيو 2013 التي وضعت حدا لحكم الجماعة في القاهرة، وبالتالي فأي توجه في مضمار المصالحة يضرب هذه المسألة في مقتل، وسوف تكون له تداعيات كبيرة على الداخل المصري.
تحول رفض المصالحة إلى توجه عام لا يتعلق بحسابات النظام الحاكم فقط، لكن الشعب أصبح جزءا منه، ومهما بلغت المعاناة من السياسات التي يتبناها على الصعيدين السياسي والاقتصادي ومردوداتها السلبية، فإنه يُحسب له التصدي بقوة للإخوان ومنع استمرار مسلسل من الكوارث كادت تؤدي إلى فوضى، بكل ما تحمله من صراعات.
لن تستطيع القاهرة التخلي عن الرفض لكل ما تتبناه الجماعة من تصورات وممارسات ما لم تقم الأخيرة بمراجعة شاملة لأفكارها العتيقة، وتعلن توبتها عن التقية ومنهج العنف، وكل ما قامت به من خطوات كبّدت البلاد خسائر فادحة، ولأن هذه عملية صعبة لن تبارح مكانها، حيث تدرك أن المراجعة الجادة والناجزة تجعلها تقف عارية أمام مجتمع تعتقد أنه على استعداد للتحرك في الشارع لنجدتها.
هذه قراءة خاطئة أخرى، لأن الناس إذا قرروا التحرك فلن يكون ذلك لأجل عيون أو خاطر الإخوان، فهناك مشاكل كافية تدفعهم للغضب، غير أن شبح الجماعة يكبل هؤلاء عن الحركة، فأي خطوة في اتجاه إظهار الرفض لسياسات النظام المصري من خلال الشارع سوف يقفز عليها الإخوان، ويحولونها إلى مطية لعودتهم.
يفهم العقل الجمعي هذه المسألة من خبرته في ثورة 25 يناير 2011، حيث ظلت الجماعة صامتة في أيامها الأولى، وعندما تبيّنت الخيط الأسود من الأبيض نزلت بكل ثقلها إلى الشارع، وتمكنت من السيطرة على الكثير من محركاته الناعمة والخشنة، وكانت الأكثر تنظيما وحضورا بما مكنها من قطف ثمار الثورة وحدها، حتى قادها جشعها إلى الانزلاق في فخ التمكين مبكرا.
تبقى مشاهد ثورتي يناير ويونيو حاضرة في ذاكرة المصريين، ما يمثل كابحا لأي مصالحة رسمية يمكن أن تعود معها الجماعة إلى فصولها السابقة، ولذلك فمبدأ الرفض يتكاتف فيه النظام مع شريحة عريضة في المجتمع وفرت له الثبات على فصل الممانعة، وضمنت له شعبية مستمرة، كلما انتقصت بسبب بعض الإجراءات السياسية والاقتصادية ضخت فيها حماقات الجماعة دما جديدا.
تقف الصورة الذهنية القاتمة للإخوان حاليا داخل مصر وخارجها حجر عثرة لعبورها السياسي مرة أخرى، وتضع على عاتقها حملا ثقيلا لتصحيحها، وهو ما يوفر للنظام المصري كافة الحجج لعدم التخلي عن فرض قبضته عليها، ويتشبث بعملية رفض المصالحة، وربما يمعن في المزيد من التطويق خلال المرحلة المقبلة، ليتمكن من سد جميع الثغرات التي تسعى إلى النفاد منها.